في زمن يتسارع فيه إيقاع الأزمات العالمية، من أوكرانيا إلى تايوان مرورًا بغزة وطهران، لم تعد سويسرا بمعزل عن ارتدادات المواجهة بين القوى الكبرى. تقرير جهاز الاستخبارات الفيدرالي السويسري (SRC) للعام 2025، الصادر مطلع يوليو، يطلق إنذارًا مبكرًا بأن البيئة الأمنية التي طالما نعمت فيها الكونفدرالية بالاستقرار، بدأت تتآكل أمام موجات تهديدات عابرة للحدود. وبينما يظلّ الحياد حجر الزاوية في السياسة الخارجية السويسرية، يتساءل التقرير ضمنيًّا إن كان هذا المبدأ كافيًا لمواجهة عالم يتغير جذريًّا.
“ملامح مواجهة عالميّة”
التقرير يرسم لوحة قاتمة لعالم ينزلق نحو استقطاب حادّ بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى، في ظل تنامي النزاعات الإقليمية وتداخلها مع الصراعات الكبرى. وجاء في الجزء المعنون “ملامح مواجهة عالمية” بأن العالم بشهد تكوّنا تدريجيًا لإطار مواجهة عالمية، حيث تتلاقى الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة مقابلة. ولهذا الانقسام العالمي انعكاسات مباشرة على سويسرا: فالتهديد بالتجسّس في ارتفاع، كما تتزايد أنشطة الانتشار – سواء النووي أو التقليدي. كما يظلّ التهديد الإرهابي عند مستوى عالٍ. وما يثير القلق بصورة خاصّة هو تصاعد ظاهرة التطرّف الرقمي بين الشباب.
وفي قلب هذه الرؤية الاستراتيجية، يحتلّ الشرق الأوسط موقعًا محوريًّا. التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل، بما في ذلك الهجمات المتبادلة على البنى التحتية الحيوية، يعكس دينامية نزاع إقليمي قد تتسرّب آثاره إلى أوروبا وسويسرا. المخاطر المرتبطة بأمن الطاقة، وموجات الهجرة الجديدة، وخطر انتشار الدعاية الرقمية التي تغذّي التطرّف، كلّها اعتبارات أوردها التقرير كعوامل قد تضغط على قدرة سويسرا على إدارة التحدّيات الأمنية.
تهديدات “المسافرين إلى الجهاد”
وفي سياق التهديدات الإرهابية التي يرصدها التقرير، يشير جهاز الاستخبارات الفيدرالي إلى أنّ عدد “المسافرين إلى الجهاد” من سويسرا بلغ 92 شخصًا حتى مايو 2025. هؤلاء المصنَّفون كعناصر غادرت البلاد أو أبدت نيّة الالتحاق ببؤر النزاع، يمثّلون تهديدًا متعدّد الأوجه، لاسيّما إذا عادوا حاملين خبرات قتالية وأفكارًا متطرفة. وبحسب المعطيات السابقة التي تكرّر نمطها في التقرير الحالي، فإنّ الوجهات الرئيسية لهؤلاء كانت سوريا والعراق، مع نسب أقلّ اتجهت نحو الصومال وأفغانستان وباكستان، وهي مناطق تنشط فيها جماعات مثل “داعش” و”القاعدة.”
إلى جانب ذلك، يرصد التقرير وجود 48 شخصًا آخرين يُصنَّفون كمصادر خطرة محليّا، أي عناصر قد تكون لها قابلية للانتقال إلى الفعل الإرهابي على الأراضي السويسرية نفسها، مدفوعة بتأثيرات رقمية أو شبكات تطرّف داخلية. هذه الأرقام، وإن كانت محدودة مقارنة بدول أوروبية كبرى، فإنّها تعكس حقيقة أنّ سويسرا، رغم حيادها، ليست محصّنة ضد تيّارات العنف العابر للحدود، بخاصّة في ظلّ البيئة الرقمية التي سهّلت عمليات التجنيد والدعاية الأيديولوجية بين الشباب.
إلى جانب ذلك، يؤكّد التقرير أنّ البنية التحتية الحسّاسة في سويسرا، بما في ذلك شبكات الكهرباء والقطاع المالي والنقل، باتت هدفًا لهجمات إلكترونية معقّدة قد تحمل بصمات قوى أجنبية. هذه التحدّيات دفعت برن إلى تعزيز قدرات الدفاع السيبراني من خلال منصّات مثل Cyber-Defence Campus وتوسيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص لرصد الهجمات مبكرًا واحتوائها.
دعوة إلى حياد “متوازن”
وفي مواجهة هذا الواقع الجديد، يدعو التقرير إلى تبنّي نهج أمنيّ أكثر شمولية، يوازن بين الحياد التقليدي والانخراط الدولي الواعي، مع تكثيف جهود توعية المجتمع بخاصّة الشباب حول مخاطر التطرّف الرقمي. فالتحدّيات القادمة لم تعد تحترم الحدود، وسويسرا – رغم حيادها – ليست بمنأى عن تداعيات لعبة الأمم.
ما يكشفه التقرير الأمني السويسري هو أنّ سويسرا لم تعد قادرة على الاختباء خلف جدران الحياد وحدها. العالم اليوم أكثر اتّصالًا وتداخلًا، والتهديدات أكثر تطوّرًا وسرعة من أن تُواجه بسياسات القرن الماضي. الحياد سيظلّ ميزة استراتيجية، لكنّه بحاجة إلى إعادة تعريف، ليس كعزلة عن العالم، بل كقدرة على المناورة الذكية والانخراط الحذر، لحماية مصالح الكونفدرالية وقيمها الإنسانية في آن واحد.