لبنان تحت تأثير “دبلوماسيّة الصدمة” : فهل يكون “الردّ على الردّ” آخر صدمات برّاك؟

1000167584
لبنان تحت تأثير “دبلوماسيّة الصدمة” : فهل يكون “الردّ على الردّ” آخر صدمات برّاك؟

ينشغل لبنان الرسمي والشعبي بنتائج زيارة مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سوريا، سفير واشنطن في أنقرة اللبناني الأصل توم برّاك إلى بيروت، والتي أجرى خلالها محادثات مع مسؤولين لبنانيين، على رأسهم رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان.

ففي الشكل تلمّس اللبنانيون تراجع اهتمام واشنطن بلبنان، كون برّاك، وإن كان يحمل جذورًا لبنانية من مدينة زحلة، ليس مبعوث ترامب الخاص إلى لبنان، بل إلى سوريا، وهو أمر لا بدّ من أن يدفع اللبنانيين إلى قليل من الإحباط.

وفي المضمون، لم يلبث هذا “القليل” من الإحباط أن تحوّل إلى “الكثير”، مع ارتفاع منسوب التحذير في تصريحات برّاك، بعد كل ّلقاء له في بيروت، حيث وجد أن أيادي قادته مكبلة بتداعيات نزاع قائم منذ خمسين عاما. والإحباط تطوّر إلى مخاوف حقيقية مع تحذيره لبنان من “خطر وجودي”، ورد في تصريح له إلى صحيفة “ذا ناشونال” قال فيه: “سوريا تثبت وجودها بسرعة كبيرة، وإذا لم يتحرّك لبنان، فستعود بلاد الشام من جديد”، ما يُعتبر تهديدًا مباشرًا للبنان بعودته إلى الوصاية السورية التي عانت منها كافة أطياف الشعب اللبناني لعقود متتالية.

الورقة الأمريكية: أسئلة بلا اقتراحات واضحة

هذا التصريح الذي عاد وبرّره بالقول إنّه “لم يكن تهديدًا للبنان بل إشادة بخطوات سوريا المثيرة للإعجاب”،  جاء كما يبدو ردًّا من برّاك على ما يوصف ب “رماديّة” الموقف اللبناني من الورقة الأمريكية بالرغم من أنّها  لا تتضمّن أيّ اقتراح أو مبادرة معلنة من قبل واشنطن، بل مجموعة أسئلة طُلب من رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي أجوبة عليها، وفحواها يتعلّق بالموقف من إسرائيل، وماذا سيفعل لبنان في شأن سلاح “حزب الله” الذي يدور بحث في شأنه بين رئيس الجمهورية وممثلين لقيادة الحزب، وكيف ستكون علاقة لبنان مع سوريا في ظلّ السلطة الجديدة فيها، وما هو مصير الإصلاحات المالية والاقتصادية والإدارية وغيرها التي وعدت الحكومة بإجرائها.

الردّ اللبناني على ورقة برّاك تضمّن “رغبة وسعي الدولة الى حصرية السلاح، كل السلاح وسلاح حزب الله أينما وجد على الأراضي اللبنانية”، بالإضافة إلى مواضيع تتعلّق بترسيم الحدود مع سوريا وإسرائيل وبالإصلاحات القضائية والإقتصادية وغيرها، ولكنّها لم تتضمّن موافقة واضحة من حزب الله على تسليم السلاح، بل مجرّد “ملاحظات” على الورقة الأمريكية.

وبالرغم من إشادة برّاك في بعض تصريحاته بمواقف المسؤولين اللبنانيين “المسؤولة”، إلّا أنّ تصريحات أخرى له كانت واضحة لجهة ضرورة عدم تأخّر لبنان عن قطار “التغييرات السريعة” في المنطقة، وتحذيراته من أنّ الرئيس ترامب “لا يملك الصبر”، ومقارنته دائمًا بين الأداء “الممتاز” للرئيس السوري أحمد الشرع وأداء المسؤولين في لبنان. برّاك يعلم جيّدًا أنّ مسألة نزع سلاح حزب الله تواجه عقبات كثيرة ومخاطر عديدة في بلد  لم يتعافَ بعد من الحروب الطائفية، وعلى رأسها خطر عودة الحرب الأهلية في ظلّ عدم قدرة الجيش اللبناني على مواجهة الترسانة العسكرية لحزب الله، الذي ما زال يمسك بالمفاصل الحيوية للدولة. وهو ما أكّده برّاك نفسه عندما قال “أنّ حزب الله هو حزب سياسي لبناني له ممثّلون في الحكومة والبرلمان، وإنّ نزع السلاح يتطلّب موافقة حزب الله.”

“دبلوماسية الصدمة” بنكهة لبنانية

في تأكيد جديد على اعتبار الدبلوماسية الأمريكية حزب الله حزبًا إرهابيًّا، حذّرت الخارجية الأمريكية في بيان صدر عقب الاجتماع الرابع عشر لمجموعة تنسيق إنفاذ القانون، الذي نظمته وزارتا الخارجية والعدل الأمريكيتان بالتعاون مع الشرطة الأوروبية “يوروبول” وبمشاركة دولية واسعة في 11 يوليو من أن حزب الله لا يزال يحتفظ بقدرات تهدّد الأمن العالمي، ويسعى لتعزيز وجوده الخارجي رغم الضغوط.

وفي تصريحات تناقض في الظاهر الإستعجال الأمريكي في استصدار موقف حازم وسريع، من الدولة اللبنانية في موضوع سلاح حزب الله وبسط سيادة الجيش على كافة أراضيها، قال برّاك: “إذا ووافق حزب الله “تدريجيًّا” على التخلّي عن أسلحته الثقيلة، فإنّ ذلك قد يشكّل بداية. فالجميع في لبنان يحمل سلاحًا خفيفًا، لكنّ الحديث هنا عن الأسلحة التي يمكن أن تؤثّر على إسرائيل”، في إشارة ضمنية إلى أنّ اتفاق تسليم السلاح المطلوب يمكن أن يسمح لحزب الله بالإحتفاظ بأيّ سلاح لا يؤثّر على أمن إسرائيل، وهو أمر يهدّد ببقاء نفوذ حزب الله في لبنان على ما هو عليه…

هذا الموقف لبرّاك لا يحمل تناقضًا مع مواقف الإدارة الأمريكية بقدر ما ينبع من سياسة العصا والجزرة بصيغة أمريكية متطوّرة مطعّمة “بنكهة لبنانية” تحدّث عنها برّاك في توصيفه لمواقف المسؤولين اللبنانيين في المفاوضات، وهو إذ ذاك يطبّق “دبلوماسية الصدمة”، للوصول بالمهمّة إلى خواتيم ناجحة.

“شيفرة” صعبة الفكّ

مواقف برّاك يحاول المسؤولون اللبنانيون فكّ “شيفرتها” على ضوء التطورات السريعة على الصعيد الأمني، بدءًا بتصاعد حدّة الإستهدافات الإسرائيلية لمناطق الجنوب معقل حزب الله، وصولًا إلى الإشكالات الأمنية على الحدود مع سوريا والتي تتصاعد وتيرتها، بخاصة على المعابر غير الشرعية. وبالرغم من نفي برّاك وعدد من المسؤولين السوريين وجود أيّ نيّة سوريّة للعودة إلى زمن الوصاية أي إلى ما قبل ما قبل العام 2005، إلاّ أنّ تسريبات للإعلام العبري حول سعي السلطة السورية الجديدة إلى “ضمّ طرابلس” عاصمة الشمال اللبناني إليها لا بدّ من أنّها لم تأتِ من عدم، بخاصّة مع إعلان الجيش اللبناني عن تنفيذ عدّة اعتقالات في أكثر من منطقة لعدد من “الإرهابيين” بينهم منتمون إلى تنظيم داعش. فهل يكون هذا مؤشّرًا لإعادة واشنطن تلزيم لبنان إلى سوريا لتخوض بها معركة جديدة من “الحرب بالوكالة” التي شنّتها في المنطقة؟ وماذا سيكون موقف دول الخليج العربي بخاصة المملكة العربية السعودية من ذلك؟

لا شكّ أنّ للمملكة العربية السعودية دورًا ستلعبه في ظلّ المتغيّرات المتسارعة، إنطلاقًا من شراكتها مع الولايات المتحدة وتجلّياتها الواضحة بدءًا من اللقاء الذي جمع ترامب والشرع في الرياض بحضور وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان وما تبعه من خطوات سعودية داعمة للسلطة الجديدة في سوريا. لذلك فالرهان الآن على دور المملكة كوسيط أساسي في ضبط إيقاع التطورات ومنع المنطقة من الإنزلاق إلى الفوضى من بوابة لبنان.

أمام هذا الواقع المتغيّر سريعًا، وبالرغم من الضغوط المتصاعدة، يتمسّك حزب الله بالموقف الإيراني الرافض لتسليم السلاح، مراهنًا على عامل الوقت للحفاظ على نفوذه أو تحقيق ما يمكن تحقيقه من مكاسب سياسية، بخاصة مع تراجع إيران عن مواقفها السابقة في الملف النووي، إذ أعلنت في 12 يوليو بلسان وزير خارجيتها عباس عرقجي استعدادها للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وفق “شكل جديد”، مؤكّدة في الوقت عينه التزامها بالحل الدبلوماسي للخلافات المرتبطة ببرنامجها النووي. وفي اليوم عينه، تمّ الإعلان عن مفاوضات سورية إسرائيلية رافقت زيارة الشرع إلى العاصمة الأذربيجانية، في ما يُعتبر خطوة متقدّمة نحو التطبيع.  

إزاء هذه التطوّرات المتلاحقة التي تظهّر أكثر فأكثر ملامح الشرق الأوسط الجديد، يقف لبنان منقسما وحيدًا على مفترق طرق بالغ الخطورة. فأيّ طريق سيسلك؟ هل سيتجرّأ ويقفز إلى قطار التغيير في اللحظة الأخيرة أم يتأخّر فيقفز في الهواء ويسقط في المجهول؟ الجواب في مواقف المسؤولين اللبنانيين من “الردّ على الردّ” الذي ينقله برّاك إلى لبنان بعد أيّام قليلة.

Scroll to Top