صعوبة مهمة القوات الدولية في غزة : إختبار سياسي ودبلوماسي شامل لخطة السلام الأمريكية

0019
صعوبة مهمة القوات الدولية في غزة : إختبار سياسي ودبلوماسي شامل لخطة السلام الأمريكية

تشكّل فكرة نشر قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات في غزة أحد أكثر عناصر خطة السلام الأمريكية (8 أكتوبر) حساسية وأهمية في آنٍ واحد. فبينما يبدو البيت الأبيض مصمّمًا على تنفيذ بنود وقف إطلاق النار والمضيّ قدمًا، تشير الحقائق الميدانية والسياسية إلى أنّ حفظ السلام في غزة سيكون مهمة معقّدة ومليئة بالتحدّيات، وليست مجرّد عملية انتشار عسكري تقليدية.

فلم يمض وقت طويل قبل أن تطفو احدى هذه التحديات على السطح إذ أثارت الضربات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة مخاوف جدية حول مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار. ورغم تصاعد التوتر، أكّد البيت الأبيض تمسّكه بالاتفاق، إذ أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن “لا شيء سيعرّض اتفاق التهدئة للخطر”، مشدداً في الوقت ذاته على أن لإسرائيل “الحق في الرد إذا تعرّضت لهجوم”.

وقف إطلاق النار: حجر الأساس لأيّ مهمة دولية

قام كل من نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، والمبعوث الخاص ستيف ويتكوف، والمستشار جاريد كوشنر بزيارة إسرائيل لضمان صمود وقف إطلاق النار، تبعهم وزير الخارجية ماركو روبيو في زيارة منفصلة تحمل الرسالةعينها. فمن دون وقفٍ مستقرّ لإطلاق النار، لا يمكن لأيّ قوة حفظ سلام أن تنجح في مهمتها.

وقد أعربت دول عدّة عن اهتمامها بالمشاركة في هذه القوة الدولية، من بينها مصر وتركيا وأذربيجان وإندونيسيا وباكستان وعدد من الدول الأخرى. إلا أنّ ما يهمّ الآن ليس الرغبة المعلنة بقدر ما هو الالتزامات الفعلية. فكلّما اهتزّت خطة السلام، كلّما تراجعت احتمالات أن تقدم هذه الدول على إرسال قواتها إلى ساحة غير مستقرّة.

حجم القوة وحدود التفويض

تشير تقارير صحفية عربية إلى احتمال أن تضم قوة حفظ السلام نحو 4000 عنصر. ورغم أنّ بعض الدول، مثل باكستان، تمتلك خبرة في الانتشار الخارجي ضمن بعثات الأمم المتحدة أو التحالفات الدولية، إلا أنّ هذه التجارب نادرًا ما تكون سهلة. ومن التجارب التاريخية التي تؤكّد صعوبة المهمة:

  • فشل مهمة الأمم المتحدة في الصومال في التسعينات وانفجار معركة مقديشو الشهيرة.
  • انتشار الأمم المتحدة في جنوب لبنان الذي لم يمنع استمرار التوتّر ولم يحقّق نزع سلاح حزب الله.
  • إخفاقات مشابهة سُجّلت في هايتي والكونغو.

وفي المقابل هناك حالات نجاح نادرة، مثل تجربة كوسوفو التي قادها حلف الناتو، لكنها تطلّبت تنسيقًا دبلوماسيًاعاليًا وإرادة سياسية صلبة. أمّا غزة، فمشهدها أكثر تشظّيًا وتعقيدًا.

قطاع منقسم ومشهد متقّلب

الواقع على الأرض يُظهر أنّ قطاع غزة منقسم فعليًّا إلى منطقتين:

  • منطقة يسيطر عليها الجيش الجيش الإسرائيلي وتشكّل نحو 50% من مساحة القطاع.
  • ومنطقة تفرض حركة حماس سيطرتها عليها، إلى جانب مجموعات مسلّحة صغيرة مدعومة من إسرائيل ومتنافسة على النفوذ.

في مناطق سيطرتها، تسعى حماس لإظهار أنّها لا تزال قادرة على فرض سلطتها على أكثر من مليوني مدني في القطاع، وإن كانت قد خفّفت من ممارساتها القمعية منذ وقف إطلاق النار. أمّا المنطقة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية فيمكن أن تشكّل قاعدة انطلاق للقوة الدولية لتأمين وجودها الأوّلي وبناء الثقة مع السكان المحليين، إضافةً إلى إطلاق مشاريع بنية تحتية واستثمارية ضرورية لنجاح أيّ مهمة حفظ سلام.

حفظ السلام أم فرضه؟

من أبرز التساؤلات المطروحة: ما طبيعة التفويض الممنوح لهذه القوة؟ ففي مقابلة مع برنامج Panorama على قناة BBC، قال العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني: “إذا كانت المهمة حفظ سلام، فربما يكون هناك استعداد دولي. أمّا إذا كانت فرض سلام، فلن يرغب أحد في الاقتراب منها.”

فحفظ السلام يتطلّب موافقة الأطراف المتنازعة ويُسمح فيه باستخدام القوة فقط للدفاع عن النفس أو عن التفويض. أما فرض السلام فيعني الدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة.

الأردن ومصر أبدتا استعدادًا لتدريب قوات شرطة فلسطينية، لكنّ ذلك يحتاج إلى وقت وإطار سياسي مستقرّ. وكما قال الملك عبد الله: “لا أحد يريد أن يركض في غزة بالسلاح”، فالأردن أكّد أنّه لن يرسل قوات إلى غزة بسبب حساسيته السياسية الكبيرة، إذ يشكّل الفلسطينيون أكثر من نصف سكان المملكة، إضافةً إلى استضافتها لأكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة. ودول عربية أخرى قد تتّخذ الموقف عينه خوفًا من تداعيات سياسية داخلية.

معضلة حماس: بين القبول المحدود والرفض الجوهري

تشير المواقف الأخيرة لقيادات حماس إلى موقف مزدوج يجمع بين القبول المحدود بفكرة نشر قوات دولية وبين الرفض القاطع لأيّ تدخل يمسّ سيطرتها الداخلية أو سلاحها.

ففي حديث لوكالة “رويترز” في17 أكتوبر 2025، صرّح محمد نزال، أحد كبار مسؤولي الحركة، أنّ حماس تعتزم الحفاظ على السيطرة الأمنية في غزة خلال فترة انتقالية ولا يمكنها الالتزام بنزع السلاح فورًا، مشيرًا إلى أنّ هذا الملفّ يحتاج إلى “إجماع فلسطيني أوسع”.

وفي هذا السياق، أدلى خليل الحية، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، بتصريحات أكثر تحديدًا بشأن القوات الأممية المقترحة، قائلاً: توافقنا على القوات الأممية التي ستأتي للفصل ومراقبة وقف إطلاق النار، وأضاف: “نرحّب بجهات عربية وإسلامية لتكون ضمن القوات الأممية، المهمة المركزية لها هي حفظ وقف إطلاق النار ومراقبته، وحفظ الحدود، وليس لها عمل في داخل قطاع غزة.”

هذا التصريح يُعدّ أوّل إشارة رسمية من حماس إلى قبول مبدئي بوجود قوات دولية، لكنّه يرسم حدودًا واضحة وصارمة لمهامها:

  • مهمتها الأساسية ستكون مراقبة وقف إطلاق النار،
  • مراقبة الحدود والمعابر،
  • عدم القيام بأيّ مهام أمنية أو عمليات داخلية داخل القطاع.

دلالات الموقف

  1. قبول تكتيكي لا استراتيجي: يبدو أن حماس تحاول تقديم مرونة محسوبة تجاه الضغوط الدولية دون المساس بجوهر سلطتها.
  2. تحييد مسألة السلاح: لم تتحدّث الحركة عن أيّ التزام بنزع السلاح، بل وضعت خطوطًا حمراء واضحة.
  3. تفضيل الدور العربي والإسلامي: حماس تسعى للتأثير على تركيبة القوة الأممية لتقليل الحضور الغربي.
  4. محاولة ضمان شرعية ميدانية: بقبول قوات “مراقبة” لا “تنفيذ”، تسعى الحركة للحفاظ على مكانتها كسلطة أمر واقع في غزة.

التحدّي أمام القوة الأممية

هذا الموقف يعني أنّ أيّ قوة حفظ سلام ستكون مقيّدة الصلاحيّات، وستضطرّ إلى التعايش مع سلطة الأمر الواقع التي تمارسها حماس داخل القطاع. وهو ما يتعارض جزئيًّا مع الرؤية الأمريكية التي تطرح نزع سلاح الحركة وإنشاء إدارة تكنوقراطية جديدة. ومن دون معالجة هذه الفجوة بين ما تريده حماس وما تريده واشنطن والدول المشاركة، فإنّ مهمة القوة الأممية قد تتحوّل من حفظ سلام فعّال إلى مجرد مراقبة شكلية في مناطق محدودة، وهو ما قد يهدّد استدامة وقف إطلاق النار مستقبلاً.

حساسية سياسية عميقة

إنّ نشر قوة حفظ سلام في غزة لن يكون مجرّد اختبار عسكري، بل اختبار سياسي ودبلوماسي شامل. فنجاح المهمة يتطّلب وقف إطلاق نار مستقرّ، وتفويضًا واضحًا، وإجماعًا بين الدول المشاركة، وخطة واضحة للحكم المحلي بعد حماس.

لكنّ المواقف الميدانية الحالية، وعلى رأسها موقف حماس، تؤشّر إلى أنّ القوة الأممية ستعمل في بيئة مليئة بالقيود والتحدّيات، ما يجعل النجاح مرهوناً بتسويات سياسية أعمق من مجرد نشر قوات.

فإن نجحت، قد تمهّد الطريق لسلام دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وإن فشلت، فإنّها قد تفتح الباب أمام موجة جديدة من عدم الاستقرار وتراجع الرغبة الدولية في أيّ تدخّل مستقبلي.

Scroll to Top