بعد عام واحد على سقوط نظام بشار الأسد، تبدو سوريا وكأنّها غادرت مرحلة طويلة من الحكم الأمني دون أن تدخل فعليًّا في مسار دولة جديدة. فالهجوم الواسع الذي نفّذته هيئة تحرير الشام في نوفمبر 2024 وسيطرتها على حلب ثم دمشق عجّل بانهيار النظام، لكنّه لم يؤسّس تلقائيًّا لبديل مستقرّ. وفي الذكرى الأولى، بدت الاحتفالات الشعبية متنفّسًا من عقود القمع، لكنّها لم تُخفِ مؤشّرات التفكّك الأمني والمعيشي ولا حجم التحدّيات التي تهدّد المرحلة الانتقالية.
تولّي أحمد الشرع الرئاسة في 29 يناير 2025 شكّل بداية رسمية لمرحلة جديدة، غير أنّ الخطوات التي تلت ذلك أظهرت فجوة واسعة بين توقّعات التغيير ومتطلّبات بناء دولة. فالدستور المؤقّت الذي أُقرّ في مارس ورغم تحديده إطارًا انتخابيًّا يمتدّ حتى 2030، أبقى على صلاحيات رئاسية واسعة خصوصًا في الأمن والقضاء، ما أثار الشكوك حول نيّة السلطة الانتقالية تفكيك إرث الدولة الأمنية. أمّا الانتخابات البرلمانية غير المباشرة، فلم تُحدث التحوّل المؤسّسي المطلوب لبناء حكم فعّال.
الواقع المأزوم
وتتعمّق الإشكالات في الملفّات الجوهرية التي تُعدّ أساس أيّ انتقال ناجح، فإعادة تشكيل القضاء تتقدّم ببطء شديد، وتشكيل جهاز شرطة مهني ما زال متعثّرًا، بينما يواصل اقتصاد المخدّرات اختراقه للمشهد، في ظلّ غياب خطة وطنية فعّالة لمكافحته. أمّا لجان العدالة الانتقالية، فرغم أهمّيتها الرمزية، لا تزال أقرب إلى مشروع نظري لا يعكس المسار الذي تتطلّبه دولة خارجة من نزاع طويل.
وإلى جانب ذلك، كشف المشهد العسكري هشاشة قدرة الدولة على فرض سيطرة موحّدة. فالمواجهات الدامية في الساحل في مارس 2025، والاشتباكات المتكرّرة بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات الحكومية، تُظهر أنّ اتّفاق دمج القوات لا يزال إعلانًا سياسيًّا بلا آليّات تنفيذ، وأنّ الدولة غير قادرة حتى الآن على حصر السلاح أو ضبط الفصائل المتعدّدة الولاءات.
وتتعقّد الصورة أكثر مع تمسّك الرئيس الشرع برفض الفيدرالية بشكل مطلق، واعتباره أيّ نقاش حولها تهديدًا لوحدة الدولة. غير أنّ هذا الرفض لا يعالج جوهر المشكلة: غياب سلطة الدولة في مناطق واسعة، وتراكم مظالم تاريخية لدى مكوّنات رئيسية مثل الأكراد والدروز وبعض الأقلّيّات الساحلية. فالمطالب باللامركزية ليست مشروع تفتيت، بل نتيجة فراغ سياسي وإداري دام سنوات طويلة.
اقتصاديًّا، تبدو الصورة أشد قتامة. فالمدن المدمّرة تحتاج إلى إعادة إعمار تتجاوز 400 مليار دولار، في غياب أيّ التزام دولي فعلي. ومع ارتفاع معدّلات الفقر والتضخّم، وعجز الدولة عن إدارة ديونها المستحقّة لروسيا وإيران، تبقى محاولات الاعتماد على الزراعة والصناعات المحلية حلولًا مؤقّتة لا ترقى إلى مستوى الإنقاذ.
التحوّل في العلاقات الخارجية
لعلّ أبرز تغيير في سوريا خلال حقبة ما بعد الأسد، يتمثّل في تحوّل سياستها الخارجية وإعادة تموضعها على المستوى الإقليمي وتعزيز علاقاتها مع كلّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والأردن وتركيا. كما استطاعت سوريا الجديدة تطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد أن كانت مرتبطة بالمعسكر الشرقي منذ العام 1967 ، وخصوصًا مع إعلان انضمامها إلى التحالف الدولي الذي تتزعّمه واشنطن، والرعاية الأمريكية لقرار مجلس الأمن بإزالة العقوبات عن الشرع. كما استطاعت سوريا تحويل العلاقات مع روسيا من خانة العداء إلى التنسيق والشراكة، فيما تظهر مؤشّرات على تقارب بين دمشق وبكين أوّلها امتناع الصين عن استخدام حق النقض ضد قرار رفع العقوبات عن الشرع.
ولكن اتجاه سوريا الجديد الذي نقلها من ضفّة إلى أخرى على صعيد العلاقات الخارجية، يبقى من دون ثمار فعليّة ما لم يكن مقرونًا بسلسلة إجراءات على صعيد الداخل يطالب بها الحلفاء الجدد.
إجراءات لا بدّ منها
تكشف التجربة السورية خلال العام الأول من سقوط النظام السابق أنّ مجرّد تغيير السلطة لا يكفي لنجاح الانتقال السياسي، ما لم تترافق هذه اللحظة مع إعادة تعريف واضحة لطبيعة الدولة ووظيفتها وآليّات عمل مؤسّساتها. فالمرحلة الجديدة تتطلّب خريطة شاملة من الإجراءات التي يمكن اختزالها بأربع ركائز أساسية تشكّل جوهر عملية الإنقاذ الوطني.
تبدأ الركيزة الأولى بضرورة إعادة بناء الشرعية عبر عقد سياسي جديد، وهو ما يتطلّب قبل كل شيء تقليص الصلاحيات الواسعة الممنوحة للرئيس في الدستور المؤقّت، ولا سيّما تلك المرتبطة بالأمن والقضاء. كما يستوجب الأمر إطلاق حوار وطني تشاركي يشمل مختلف المكوّنات والمناطق السورية، بحيث يصبح طاولة سياسية جامعة لا مجرّد إجراء شكلي. وإلى جانب ذلك، يجب اعتماد جدول زمني واقعي للانتخابات، يخضع لإشراف دولي وضمانات صارمة للنزاهة، بما يعيد الثقة بالعملية السياسية ويمنحها مصداقية داخلية وخارجية.
أما الركيزة الثانية فتتمحور حول إصلاح أمني وعسكري جذري، بوصفه شرطًا لا غنى عنه لإعادة بناء الدولة وبسط سلطتها. ويتطلّب ذلك إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وإخضاعها لرقابة مدنية وقانونية حقيقية، بما يضع حدًّا لتغوّلها الذي شكّل جوهر النظام السابق. ويقتضي الإصلاح أيضًا إطلاق برنامج لدمج الفصائل المسلّحة المختلفة ضمن جيش وطني موحّد بعقيدة دفاعية لا طائفية، بالتوازي مع نزع السلاح المنتشر خارج مؤسّسات الدولة وإعادة دمج المقاتلين في الحياة المدنية.
وتأتي الركيزة الثالثة لتؤكّد الحاجة إلى اعتماد لا مركزية موسّعة كبديل عملي عن السجالات العقيمة حول الفيدرالية. فالاستقرار يتطلّب منح المجالس المحلية صلاحيات فعلية في إدارة الخدمات والتنمية والأمن المجتمعي، بما يعالج مظالم المناطق ويعيد توزيع السلطة بشكل أكثر توازنًا. كما يستوجب الأمر الاعتراف بحقوق المكوّنات الثقافية واللغوية وتعزيز تمثيلها في مؤسّسات الدولة المركزية، مع الحفاظ في الوقت عينه على وحدة الجيش والسياسة الخارجية والعملة، بما يضمن بقاء الدولة متماسكة تحت هيكل وطني واحد.
وتكتمل الصورة بالركيزة الرابعة، وهي خطّة اقتصادية واقعية مرتبطة بالإصلاح المؤسّسي، إذ لا يمكن لأيّ انتقال سياسي أن ينجح فوق أرض منهارة اقتصاديًّا. وتشمل الأولويّات هنا التركيز على إعادة الإعمار الأساسي المتعلّق بالبنية التحتية الحيوية مثل المياه والكهرباء والمدارس والمستشفيات، إضافة إلى إنشاء هيئة وطنية مستقلّة تتولّى إدارة أموال الإعمار بشفافية كاملة. كما تتطلّب المرحلة التفاوض على إعادة جدولة الديون الثقيلة لروسيا وإيران، ودعم الزراعة والصناعات الصغيرة والمتوسّطة بوصفها المدخل الأكثر واقعية لإنعاش الاقتصاد واستعادة دورة الإنتاج.
عام حاسم
إنّ العام الثاني من المرحلة الانتقالية سيكون نقطة اختبار حاسمة: فإمّا أن يتحوّل إلى لحظة تأسيس حقيقية لدولة تستعيد مؤسّساتها وشرعيّتها، أو يصبح استمرارًا لانهيار مقنّع بوجوه جديدة. فالمعادلة اليوم لا تدور حول الفرق بين نظام قديم وآخر جديد، بل بين مشروع دولة قابلة للحياة، وبين فراغ سياسي واقتصادي وأمني سيظلّ قابلًا لأن يبتلع الجميع.
إنّ مستقبل سوريا لن يُبنى بالخطابات، ولا بالوعود الدولية، بل بقرارات شجاعة تعيد السلطة إلى المؤسّسات، والسلاح إلى الدولة، والثقة إلى المجتمع. وما لم تُترجم هذه الإجراءات إلى سياسات فعلية، فإنّ الفرصة التاريخية التي وفّرها سقوط النظام قد تتحوّل إلى محطة ضائعة أخرى في تاريخ سوريا الحديث.