الانتخابات العراقية 2025: سباق بين رؤيتين وصراع نفوذ بين طهران وواشنطن والرياض

1000197451
الانتخابات العراقية 2025: سباق بين رؤيتين وصراع نفوذ بين طهران وواشنطن والرياض

تتّجه الأنظار إلى العراق مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المقرّرة في 11 نوفمبر 2025، في استحقاق يُعدّ الأهمّ منذ سنوات، ليس فقط لكونه سيحدّد ملامح السلطة المقبلة، بل لأنّه يجري في لحظة إقليمية دقيقة تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى المؤثّرة في المشهد العراقي، وعلى رأسها إيران والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. ويبدو أنّ العراق يدخل هذه الانتخابات محمّلًا بإرث من التوازنات الهشّة والتجاذبات التي ستجعل نتائجها أبعد من مجرّد منافسة انتخابية داخلية، لتتحوّل إلى اختبار إقليمي لميزان النفوذ في المنطقة.

وعلى بعد ايام قليلة من الإنتخابات ارتفعت حدّة المواقف بين طرفي النفوذ الأساسيين في العراق: واشنطن وطهران. فقد أكّد مارك سافايا، مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى بغداد، على أنّ الولايات المتحدة “تقف إلى جانب العراق وهو يمضي قدمًا نحو مستقبل قوي ومستقلّ”. كما شدّد في تغريدة عبر منصّة X في 8 نوفمبر، على أنّ بلاده تدعم العراق “وهو خالٍ من الميليشيات المدعومة من الخارج.”

ويأتي هذا التصريح ردًّا على تجديد حزب الله العراقي المدعوم من إيران رفضه نزع سلاحه. إذ قال المتحدّث العسكري باسمه، جعفر الحسيني، في بيان في 7 نوفمبر إنّ “سلاحنا سيبقى بأيدينا”، معتبرًا أنّ “سلاحنا شرعي ومنضبط”. وكان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قد أكّد في وقت سابق “وجود إجماع من كلّ القوى السياسية على إنهاء وجود أيّ سلاح خارج مؤسّسات الدولة.”

هذا التصريح للسوداني لا يقلّل كم اعتباره أبرز المرشّحين لولاية ثانية، فقد نجح خلال العامين الماضيين في الحفاظ على حدٍّ من الاستقرار الداخلي وإعادة بناء جسور التواصل مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية. وتشير تقديرات عدد من مراكز الأبحاث الدولية إلى أنّ تحالفه، المسمّى “التشييد والتنمية”، مرشّح لتحقيق نتائج قوية، وإن كان من المستبعد أن يتمكّن من تشكيل حكومة منفردة، نظرًا لطبيعة النظام التوافقي القائم في بغداد. ومع ذلك، فإنّ السوداني يسعى إلى ترسيخ صورته كرجل وسط قادر على الموازنة بين نفوذ طهران وضغوط واشنطن، وهو توازن دقيق جعله حتى الآن مقبولًا من كلا المعسكرين.

طهران

صحيح أنّ إيران تواصل دعمها للأطراف السياسية الشيعية المنضوية ضمن ما يُعرف بـ”الإطار التنسيقي”، وفي مقدّمتها تحالف الفتح بقيادة هادي العامري وعصائب أهل الحقّ بزعامة قيس الخزعلي، غير أنّ هذا الدعم بات أكثر هدوءًا ومرونة ممّا كان عليه في السنوات الماضية. فطهران لم تعد تسعى إلى فرض هيمنة مطلقة بقدر ما تعمل على ضمان استمرار نفوذها الاستراتيجي داخل مؤسّسات الدولة العراقية، عبر تمويل الحملات الانتخابية والتأثير الإعلامي والديني، دون التدخّل المباشر الذي أثار استياءً شعبيًّا في انتخابات 2021. ويبدو أنّ إيران تبنّت مقاربة جديدة تقوم على مبدأ “الضمان لا السيطرة”، بحيث تبقى مؤثّرة أيًّا تكن نتائج صناديق الاقتراع.

واشنطن

في المقابل، تعتمد الولايات المتحدة نهجًا أكثر هدوءًا وواقعية، يقوم على دعم الاستقرار المؤسّسي بدل دعم أشخاص أو أحزاب بعينها. فالإدارة الأمريكية الحالية ترى أنّ بقاء السوداني في السلطة قد يضمن استمرار التعاون الأمني ويحدّ من تصاعد النفوذ الإيراني. وتسعى واشنطن عبر برامج تمويل غير مباشرة إلى دعم القوى المدنية والمستقلّة التي ترفع شعارات الإصلاح والحكم الرشيد. كما تواصل السفارة الأمريكية في بغداد تنسيقها مع القيادات السنّية والكردية المعتدلة لضمان توازن داخل مجلس النواب المقبل يمنع انفراد أيّ طرف شيعي موالٍ لطهران بالسلطة.

الرياض

أما المملكة العربية السعودية، ومعها بقيّة دول الخليج، فتعمل على توسيع نفوذها في العراق عبر بوّابة الاقتصاد والعلاقات العشائرية أكثر من بوّابة السياسة المباشرة. فالمملكة تدعم القوى السنيّة المعتدلة، وعلى رأسها تحالف “تقدّم” بقيادة محمد الحلبوسي، كما تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع القيادات الكردية في أربيل لضمان نوع من التوازن الإقليمي في مواجهة النفوذ الإيراني. وتراهن الرياض على مشاريع استثمارية في مجالات الطاقة والزراعة والبنية التحتية لبناء حضور اقتصادي طويل الأمد، يخلق ارتباطًا بنيويًّا بين بغداد والفضاء الخليجي. ومن الواضح أنّ السعودية تسعى إلى تحجيم النفوذ الإيراني تدريجيًّا، لا إلى مواجهته بشكل مباشر، في إطار مقاربة جديدة ترتكز على “الاختراق الهادئ” بدل الصدام العلني.

السوداني الخيار الممكن

بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الانتخابات العراقية المقبلة تمثّل سباقًا بين رؤيتين لمستقبل العراق: رؤية “محور المقاومة” الذي تسعى إيران إلى ترسيخه كامتداد لنفوذها نحو سوريا ولبنان، ورؤية “العراق المتوازن والمنفتح” الذي تراهن عليه واشنطن والرياض كحاجز جيوسياسي أمام تمدّد طهران في المشرق العربي. والمفارقة أنّ شخصية محمد شياع السوداني تقف في منتصف هاتين الرؤيتين، ممّا يجعله في نظر كثير من المراقبين “الخيار الممكن” للطرفين، طالما بقي قادرًا على إدارة التوازن دون انحياز صريح لأيّ محور. ومع اقتراب موعد الاقتراع، تبدو نسبة المشاركة الشعبية والعامل الأمني في الجنوب والشمال عاملين حاسمين في تحديد موازين القوى داخل البرلمان الجديد. لكنّ معظم التقديرات تتّفق على أنّ العراق، بعد الانتخابات، سيظلّ أمام مشهد ائتلافي معقّد يجمع بين الولاءات المتعارضة والمصالح المتشابكة. وفي النهاية، يبقى التحدّي الأكبر أمام أيّ حكومة مقبلة هو تحقيق الاستقلال في القرار الوطني وسط شبكة النفوذ الإقليمي التي لا تزال تمسك بخيوط اللعبة السياسية في بغداد.

Scroll to Top