ترامب يقلب الطاولة على التعددية… وأوروبا تتخبط بين التبعية والاستقلال المستحيل

1000163291

من الواضح أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لم يكن يومًا من أنصار التعددية ولا من محبي الاجتماعات الدولية التي تجمع كبار قادة العالم. هذا ليس مجرد موقف سياسي، بل قناعة راسخة. فترامب لا يحتمل أن يكون طرفًا في نقاش جماعي لا يمتلك فيه الكلمة الفصل، ويفضل التفاوض المباشر بين الدول، متجاوزًا آليات اتخاذ القرار الجماعي التي يراها بطيئة ومتكلسة.

ورغم الانتقادات، فإن تقييمه لواقع المؤسسات الدولية ليس بعيدًا عن الحقيقة. فمع تراجع فاعلية الأمم المتحدة، بات التحرك الأحادي أو الثنائي أكثر شيوعًا في حالات الأزمات. وهكذا، تبدو التعددية على المسرح الدولي في طريقها إلى التهميش، على الأقل في المدى المنظور.

خلافات داخل الـG7

خلال قمة مجموعة السبع الأخيرة في كندا، حضر ترامب لكنه غادر بشكل مفاجئ، رسميًا بسبب ارتباطات في جدول أعماله، لكن خلف الكواليس، السبب الحقيقي كان انزعاجه من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بدا وكأنه يتعامل من موقع الوصاية. ماكرون ألمح إلى أن ترامب يسارع إلى حل الأزمة بين إسرائيل وإيران بمفرده، رغم أن القادة كانوا مجتمعين لمناقشة المسألة.

وفسر خبير في العلاقات الدولية انسحاب ترامب من القمة آنذاك بأن الرئيس الأمريكي لا يعارض التعددية فقط، بل أنه يعتبرها عائقًا أمام السرعة والحسم، وهو يتصرف من منطلق رجل أعمال لا رجل دولة.

وفيما كان الأوروبيون يتحاورون مع الجانب الإيراني في جنيف، متمسكين بمبدأ التعددية داخل مدينة رمزية لذلك، كان ترامب يدفع نحو توجيه ضربة قاسية وسريعة لإيران، ثم يسعى بعدها إلى فرض وقف إطلاق نار. النتيجة؟ الولايات المتحدة خرجت مؤقتًا منتصرة، بعد أن فرضت واقعًا جديدًا.

قمة الناتو في ظل تصعيد عالمي

ومع انطلاق قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لاهاي وسط أجواء دولية مشحونة، حاولت القوى الغربية مجددًا الترويج للتعددية كأداة لحل النزاعات. الأوروبيون، من جانبهم، يسعون إلى تأكيد تمايزهم عن إدارة ترامب، غير أن الأخير لا يُعيرهم اهتمامًا كبيرًا.

فالولايات المتحدة ما زالت تدير سياستها الخارجية بشكل منفرد، بينما يجد الأوروبيون أنفسهم في مأزق: إما السير نحو الاستقلال عن واشنطن من دون امتلاك الوسائل، أو البقاء تحت عباءة التحالف معها.

روتّه يُرضي واشنطن… ويغضب باريس

الأمين العام الجديد للناتو، مارك روته، يبدو أنه اختار الاصطفاف مع واشنطن، ساعيًا إلى “إعادة الأوروبيين إلى رشدهم”، بحسب تعبير بعض المحللين. فقد تعهد للرئيس الأمريكي بأن الدول الأعضاء ستزيد مساهماتها الدفاعية إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أشاد بالضربة الأمريكية ضد إيران واتفاق وقف إطلاق النار بين تل أبيب وطهران.

هذه النسبة الطموحة قد تشكل فرصة للأوروبيين لبناء استقلال استراتيجي ودفاع مشترك، لكنها في الوقت نفسه ترضي واشنطن وتستفز باريس.

أوروبا بين المطرقة والسندان

لا يمكن للأوروبيين أن يواصلوا لعب دور الضمير الأخلاقي للعالم بينما يفتقرون إلى الوسائل. فبعد أن قطعوا علاقاتهم بروسيا، ويقتربون من القطيعة مع الصين، ويواجهون مستقبلًا غامضًا في مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة، يجد الأوروبيون أنفسهم معزولين أكثر فأكثر.

ومع تصاعد الخلافات الداخلية، البعض لا يريد الإنفاق العسكري، والبعض الآخر لا يملك القدرة المالية (مثل فرنسا المثقلة بالديون)، وآخرون يرفضون الإذعان للمطالب الأمريكية بينما ينتقدون انسحابها من أوروبا.

يريد الأوروبيون الدفاع عن قيمهم الإنسانية، لكنهم ينتقدون أساليب ترامب، الذي يتنقل بين الدعوة للحوار والتهديد باستخدام القوة. وفي نهاية المطاف، تبدو أوروبا وكأنها تعزل نفسها تدريجيًا على جزيرة استراتيجية، معرضة لخطر التهميش أو حتى الاندثار.

ومع غياب خيارات سهلة، قد يضطر الأوروبيون قريبًا للاختيار بين السيئ والأسوأ.

Scroll to Top