ضربات ترامب لإيران: رسائل مقلقة لموسكو وبكين وقوّة بلا قيود تعيد رسم قواعد الاشتباك الجيوسياسي العالمي

1000161857

شكّلت الضربات الجوية الأمريكية غير المسبوقة ضدّ منشآت نووية إيرانية في 22 يونيو تحوّلًا مفصليًّا في نهج الردع العسكري الأمريكي، استخدمت فيها قنابل خارقة للتحصينات تُعتبر الأضخم في ترسانتها غير النووية. هذا التحرّك، الذي تمّ دون موافقة الكونغرس، أو استشارة الحلفاء، أو المرور عبر مجلس الأمن، لا يعكس فقط تصعيدًا عسكريًّا كانت من نتائجه إعلان الرئيس دونالد ترامب عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، بل أنه في المقام الأول يشكّل الملامح الأولى لإعادة رسم قواعد الاشتباك الجيوسياسي العالمي.

أمريكا تضرب من قلبها: الردع بلا حدود

ما ميّز هذه العملية ليس قوّتها التدميرية فحسب، بل الطريقة التي نُفّذت بها. القاذفات الشبح B-2 انطلقت من قاعدة في ولاية ميزوري الأمريكية، وعبرت نصف الكرة الأرضية لتضرب أهدافًا دقيقة داخل إيران، دون الاعتماد على قواعد إقليمية أو دعم عمليّاتي من شركاء تقليديّين.

هذا ما وصفه وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث بقوله: “هذه ليست مجرّد ضربة، إنّها استعراض لقوّة يمكنها الوصول إلى أيّ هدف في أيّ مكان على وجه الأرض، دون أن يرانا أحد”. إنّها، بكلّ بساطة، رسالة مباشرة إلى العالم: الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بقدرتها على شنّ عمليات نوعية، بعيدة المدى، من عمقها الاستراتيجي، دون أن تقيّدها الجغرافيا أو التفاهمات الدبلوماسية.

رسائل تتجاوز طهران

صحيح أن الهدف المباشر كان وقف برنامج إيران النووي، أو على الأقل تعطيله. لكنّ الرسائل غير المباشرة كانت موجّهة إلى عواصم كبرى مثل موسكو وبكين، اللّتين تقرآن هذا التحوّل على أنّه إحياء لنموذج “أمريكا المُهاجمة، لا المُدافِعة”، وتغيير في فلسفة ضبط النفس التي ميّزت الإدارات الأمريكية السابقة.

موسكو: إهانة دبلوماسية… وفرصة اقتصادية

بالنسبة إلى روسيا، التي لطالما طرحت نفسها كضامن سياسي للأمن في الشرق الأوسط، فإنّ الضربة الأمريكية تمثّل تجاوزًا صريحًا لدورها كوسيط، وتجاهلًا لمساعيها الدبلوماسية بشأن الملفّ النووي الإيراني.

ومع ذلك، يبدو أن الكرملين لن يردّ بشكل عسكري أو تصادمي، بل يسعى لاستثمار الحدث في تعزيز تحالفه مع طهران، وربّما توسيع صفقات الأسلحة والتعاون الأمني معها. من جهة أخرى، فإن أيّ اضطراب في مضيق هرمز –  إذا ما تجرّأت إيران وقرّرت الردّ عبره – قد يؤدّي إلى ارتفاع أسعار النفط، ما يصبّ في مصلحة الاقتصاد الروسي المعتمد على صادرات الطاقة.

بكين: قلق نفطي ووساطة محسوبة

بكين تنفست الصعداء مع إعلان وقف إطلاق النار، فالمشهد في العاصمة الصينية كان أكثر توتّرًا. فهي تعتمد بشكل كبير على نفط الخليج، ويعبر 45 بالمئة من وارداتها من الطاقة عبر مضيق هرمز، كما أكّد وزير خارجيّتها جوه تشياكون في مؤتمر صحافي في بكين في 23 يونيو، حذّر فيه من أنّ أيّ تصعيد بخاصّة فيما يتعلّق بإغلاق المضيق، “ستكون له تبعات سلبية على الإقتصاد العالمي بأسره”. إن أيّ تصعيد أو ردّ إيراني يؤدّي إلى إغلاق المضيق- كما هدّدت طهران بالفعل- سيشكّل تهديدًا مباشرًا لأمن الطاقة الصيني.

لذا، وعلى الرغم من الإدانة العلنية، فإنّ الصين لن تصطفّ عسكريًّا مع طهران، بل ستعمل على احتواء التصعيد، وتقديم نفسها كوسيط حيادي، في محاولة لحماية استقرار تدفّق الطاقة، دون المخاطرة بمواجهة مع واشنطن.

إعادة تشكيل معادلة الردع

الأهمّ في هذه الضربة أنّها أعادت تعريف مفهوم الردع. لم تعد واشنطن تكتفي بتحذيرات أو عقوبات، بل نفّذت عملية دقيقة وعميقة من خارج المسرح الإقليمي، فلم تُستخدم القواعد الأمريكية في منطقة الخليج العربي، ولم يُطلب غطاء من الحلفاء سوى من إسرائيل لفتح المجال الجوي أمام الطائرات المهاجمة، ولم يُمنح الخصوم وقتًا للردّ عليها حينذاك.

الرسالة واضحة: الولايات المتحدة تستطيع، وستفعل، إذا رأت ذلك ضروريًّا. هذا النوع من الردع لا يعتمد على الانتشار العسكري، بل على التفوّق التكنولوجي والسيادي، وهو ما يضع القوى المنافسة، بخاصّة روسيا والصين، أمام واقع جديد: الردع الأمريكي لم يختفِ… بل تغيّر شكله.

توازن على حافّة الانفجار

بين العدوان الصاروخي الإيراني على قطر في 23 يونيو، وتضارب الأنباء بشأن احترام اتفاق وقف إطلاق النار بين لإسرائيل وإيران، وترقّب موسكو، وقلق بكين، يبدو الشرق الأوسط أمام فصل جديد من الصراع. السؤال الآن: هل كانت الضربة الأمريكية خطوة نحو “السلام المفروض بالقوّة”، أم بداية لمسار تصعيدي قد تتوسّع نيرانه إلى ما هو أبعد من الخليج؟ وهل تستطيع حكمة الأطراف الفاعلة قراءة قواعد اللعبة الجديدة في الثواني الأخيرة… أم أنّ الأوان قد فات وبدأت بالفعل إعادة رسم الخريطة بالقوّة؟

Scroll to Top