بين الخليج العربي وبحر الصين وبعد تدخّلها العسكري في إيران: هل تستطيع واشنطن القفز فوق أزمات الشرق الأوسط؟

Nawaf Naman

بقلم نواف نعمان – رئيس التحرير

بينما كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ العقد الماضي تسعى لتعزيز وجودها العسكري والسياسي في شرق آسيا في مواجهة صعود الصين، أعاد التصعيد العسكري الأخير بين إسرائيل وإيران واشنطن إلى قلب التوتّرات في الشرق الأوسط، حتّى أضحت واشنطن جزءًا من هذا النزاع، إذ أنّ أيّ تحوّل استراتيجي أمريكي نحو آسيا سيظلّ مؤجّلًا ما لم تُحلّ الأزمات الكبرى في الخليج والمنطقة الأوسع.

عملية أمريكية غير مسبوقة: تصعيد مباشر مع إيران

في تحوّل دراماتيكي يعيد خلط أوراق المنطقة، نفّذت الولايات المتحدة فجر الأحد 22 يونيو عملية عسكرية دقيقة استهدفت منشآت نووية إيرانية في مناطق جنوب غرب إيران، تنذر بتوسيع دائرة التوتّر إلى مستوى غير مسبوق، ليس فقط بين واشنطن وطهران، بل على امتداد الإقليم الذي يقف على حافّة مواجهة شاملة.

وجاء هذا التصعيد ليؤكّد أن الانفصال الاستراتيجي الأمريكي عن الشرق الأوسط لا يزال مؤجّلًا، بل بات أكثر صعوبة من أيّ وقت مضى، في ظلّ تزايد المخاطر التي تستدعي تدخّلًا مباشرًا، حتى في أكثر الملفات حساسية كالمشروع النووي الإيراني.

التحوّل المؤجّل: من الفكرة إلى التعثر

تبنّت الولايات المتحدة رسميًّا استراتيجية “التحوّل نحو آسيا” في عام 2011، خلال إدارة الرئيس باراك أوباما، حين أعلنت وزيرة الخارجية آنذاك، هيلاري كلينتون، أن القرن الحادي والعشرين سيكون “قرن المحيط الهادئ الأمريكي”. وكان الهدف من هذه الاستراتيجية هو إعادة توجيه الثقل العسكري والسياسي الأمريكي نحو آسيا والمحيط الهادئ، لمواجهة التوسّع الصيني، وضمان استمرار النفوذ الأمريكي في المنطقة. غير أنّ هذا التوجّه الطموح ما لبث أن اصطدم بتعقيدات الواقع في الشرق الأوسط الذي لا يزال يفرِض نفسه على جدول أولويات واشنطن، مدفوعًا بصراعات لا تهدأ، وتهديدات تتجدّد، وشبكة تحالفات يصعب التخلّي عنها، بالإضافة إلى استهداف المواقع النووية الإيرانية مع كلّ ما يلي ذلك من تداعيات على المنطقة المصالح الأمريكية فيها التي أصبحت مهدّدة بشكل مباشر من قبل إيران.

إنّ الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط يعكس مدى الارتباط الوثيق بها. ففي دولة الكويت وحدها، يتمركز نحو 13,500 جندي أمريكي في “معسكر عريفجان”، الذي يُعدّ واحدة من أكبر المنشآت العسكرية الأمريكية خارج الولايات المتحدة. كما تحتفظ واشنطن بقواعد رئيسية في قطر، والبحرين، والإمارات، والعراق، وسوريا، إلى جانب انتشار بحري واسع في الخليج العربي والبحر الأحمر.

هذا الانتشار لم يكن مؤقّتًا، بل نتيجة تراكم التزامات أمنية لم تتمكّن الولايات المتحدة من تقليصها من دون أن تدفع كلفة سياسية أو استراتيجية عالية. والنتيجة: كل محاولة لفكّ الارتباط عن المنطقة، من دون حلّ جذري للأزمات، تؤدّي إلى فراغ سرعان ما يُملأ بفوضى أو مواجهات جديدة.

الصين تراقب وتستفيد

في خلفيّة هذا المشهد، تقف الصين كمستفيد غير مباشر من انشغال الولايات المتحدة بأزمات الشرق الأوسط. فكلّما طالت الأزمة القائمة حاليًّا بين إيران وإسرائيل، تأخّر تحوّل واشنطن إلى آسيا. وبينما تتحمّل الولايات المتحدة كلفة التأمين العسكري للإمدادات النفطية والتجارة البحرية في الخليج، تستفيد الصين من هذا الاستقرار من دون تحمّل التزامات أمنية مقابلة.

فالصين تعتمد على الشرق الأوسط في أكثر من 40% من وارداتها النفطية، كما تستثمر بكثافة في البنى التحتية والطاقة عبر مبادرة “الحزام والطريق”. لكنّها حريصة على بقاء التوتّر في حدود “الضبط” من دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، قد تهدّد مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.

الشرق الأوسط يسبق آسيا

لقد أثبتت تجربة الولايات المتّحدة في العقود الأخيرة أنّ تقليص الوجود العسكري لا ينجح ما لم يُرافقه مسار دبلوماسي فاعل: انسحاب قوّاتها من العراق سهّل صعود تنظيم داعش. التخلّي عن شمال شرق سوريا فسح المجال أمام تدخّل تركي مباشر. الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران دفع طهران إلى تسريع أنشطتها النووية والدفع بالمنطقة وواشنطن إلى أقصى حالة من الخطورة مع القصف الأمريكي الأخير للمنشآت النفطية الإيرانية. حتى “اتفاقيّات أبراهام” لم تمنع انفجار الأوضاع في غزة في أكتوبر 2023، بسبب تجاهلها للقضية الفلسطينية.

كل هذه المحطّات تشير إلى حقيقة واحدة: لا استقرار في السياسة الأمريكية العالمية من دون استقرار الشرق الأوسط. فإذا كانت واشنطن جادّة في التوجّه إلى آسيا، فلا بدّ لها من إيجاد حلّ جذري للملف النووي الإيراني، علمًا أنّها أعلنت القضاء على نشاط إيران النووي بالضربات الأخيرة التي نفّذتها ولكن مواقف إيران التصعيدية تؤكّد أنّ هذا الأمر لم ينتهِ بعد. كما على الولايات المتحدة الضغط على إسرائيل لمنع المزيد من التصعيد في غزة ودفعها نحو التوصّل إلى اتفاق سلام شامل مع العالم العربي.

اليوم تبدو واشنطن في مفترق طرق: فإمّا أن تُنهي تعقيدات الشرق الأوسط من خلال حلّ سياسي شامل، أو أن تبقى رهينة صراعاته المتكرّرة، وهو ما يُضعف قدرتها على مواجهة منافسين عالميين بحجم الصين. التحوّل إلى آسيا ليس قرارًا تقنيًّا يتعلّق بتحريك حاملات الطائرات أو نقل القوات من قاعدة إلى أخرى أو حتى تنفيذ ضربات جوّيّة دقيقة. إنّه مشروع استراتيجي لا يمكن أن يتحقّق ما لم تُطوَ صفحة الشرق الأوسط بأدوات دبلوماسية حقيقية، لا بمجرد الرغبة في المغادرة.

Scroll to Top