يشهد ملفّ إعادة الإعمار في لبنان انعطافة خطيرة، مع تأخّر السلطة اللبنانية عن تنفيذ تعهّداتها بالإصلاحات ونزع السلاح غير الشرعي، بخاصة سلاح حزب الله المدعوم من قبل إيران. وتتزامن هذه الإنعطافة مع الحرب الإسرائيلية الإيرانية وتداعياتها الخطيرة على منطقة الشرق الأوسط ككلّ، وتأتي بعد رسائل متوالية من واشنطن إلى بيروت تحمل تأويلات عدّة، بدأت باستبدال غير واضح بعد لنائبة للمبعوث الأمريكي إلى لبنان مورغان أورتاغوس بالمبعوث الأمريكي إلى سوريا السفير توماس برّاك، ومن ثمّ استهداف إسرائيلي لعمق الضاحية الجنوبية لبيروت معقل حزب الله بغارات جويّة في الخامس من يونيو الجاري، هي الأقوى منذ إعلان اتفاق وقف النار في 27 نوفمبر 2024، بالإضافة إلى الإتجاه إلى تسريبات بعدم التمديد لقوات “اليونيفيل” في جنوب لبنان في أغسطس المقبل لم يحسمها المعنيّون حتى الآن… فماذا يعني هذا؟
هذه التطوّرات مجتمعة تثير الشكوك، ليس حول مصير أموال إعادة الإعمار المقدّرة ب 14 مليار دولار فحسب، بل حول الوضع الأمني في لبنان واحتمال اندلاع حرب إسرائيلية جديدة ضدّ حزب الله، قد تتجاوز ربّما مناطق نفوذ الحزب، بخاصة في حال تدخّله في الحرب القائمة حاليا.
أرقام وشروط
يعوّل لبنان على تلقّي أموال لإعادة الإعمار على شكل استثمارات وقروض من جهات عديدة: البنك الدولي، الولايات المتحدة، الدول العربية بخاصة المملكة العربية السعودية والكويت، بالإضافة فرنسا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى. ولكنّ هذه المساعدات مشروطة بنزع السلاح غير الشرعي وعلى رأسه سلاح حزب الله وتنفيذ إصلاحات جذريّة في إدارة الدولة ووضع حدّ للفساد، وهي شروط عجز لبنان عن تنفيذها حتى الآن. وبالرغم من ذلك فقد سلكت بعض الأموال طريقها إلى لبنان، آخرها مساعدات أمريكية للجيش بقيمة 95 مليون دولار تمّ الإفراج عنها بالرغم من الحظر الأمريكي على المساعدات الخارجية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب، بالإضافة إلى قرض من البنك الدولي لإصلاحات تتعلق بشبكتي الطاقة والمياه، تمّ التوقيع مؤخّرًا على جزء منها تبلغ قيمته 250 مليون دولار قابلة للإرتفاع إلى مليار دولار.
ومن بين احتياجات إعادة الإعمار والتعافي، يُقدّر تقرير التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في لبنان لعام 2025 (RDNA) الصادر عن البنك الدولي في مارس الماضي، أن هناك حاجة إلى تمويلٍ بنحو 3 إلى 5 مليار دولار أمريكي من قبل القطاع العام، منها مليار دولار أمريكي لقطاعات البنية التحتيّة (الطاقة، والخدمات البلدية والعامة، والنقل، والمياه والصرف الصحي والريّ). في حين سيكون هناك حاجة إلى تمويلٍ من القطاع الخاص بنحو 6 إلى 8 مليار دولار أمريكي، يكون معظمه موجّهًا إلى قطاعات الإسكان، والتجارة، والصناعة، والسياحة.
يشمل التقييم عشرة قطاعات هي: الزراعة والأمن الغذائي؛ التجارة والصناعة والسياحة؛ التعليم؛ البيئة وإدارة الردميات؛ الطاقة؛ الصحة؛ الإسكان؛ الخدمات البلدية والعامة؛ النقل؛ المياه والصرف الصحي والريّ.
وخلص التقرير إلى أن التكلفة الاقتصادية للصراع في لبنان تقدّر بنحو 14 مليار دولار أمريكي، حيث بلغت الأضرار التي لحقت بالمقوّمات المادّية نحو 6,8 مليار دولار أمريكي، فيما بلغت الخسائر الاقتصادية الناجمة عن انخفاض الإنتاجية، والإيرادات الضائعة، وتكاليف التشغيل نحو 7,2 مليار دولار أمريكي. قطاع الإسكان هو الأكثر تضرّرًا، حيث تُقدّر الأضرار فيه بنحو 4,6 مليار دولار أمريكي. كما تأثّرت قطاعات التجارة، والصناعة، والسياحة بشكل كبير، حيث تُقدّر الخسائر فيها بنحو 3,4 مليار دولار أمريكي في جميع أنحاء البلاد.
الموقف الفرنسي
لطالما كانت المطالب الدولية تربط بين نزع السلاح غير الشرعي والإصلاحات كشرطين لا غنى عنهما لفتح باب إعادة الإعمار. هذا ما شدّد عليه مرّة جديدة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لو دريان خلال جولة على مختلف الأطراف قام بها في 10 يونيو الجاري، إذ قال في تصريحات صحافية: “لا أرى كيف يمكننا الشروع بإعادة إعمار الجنوب، إذ لا أمن هناك، وما لم يُحصر السلاح بيد الدولة، ووحدها القوات المسلّحة اللبنانية يجب أن تتولّى هذه المهمّة.”
لودريان الذي تحضّر بلاده لمؤتمر الدول المانحة لدعم لبنان في سبتمبر، المقبل تحدّث أيضًا عن ضرورة تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، إذ قال: “لدى لبنان اليوم فرصة ليؤكّد مكانته كبلد يجدّد نفسه في الشرق الأوسط، وهذا ما يعمل عليه مؤتمر باريس حول دعم إعادة الهيكلة، شرط أن تبدأ بمبادرة وتضامن القادة اللبنانيين.”
ثنائي أمريكي وتقاطع ملفّين
يبدو أنّ واشنطن تعيد درس دورها وخطواتها السياسية تجاه الملف اللبناني الذي من المرجّح أن يتسلّمه بالإضافة إلى توماس برّاك مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط مسعد بولس. وتلفت مصادر البيت الأبيض إلى أن برّاك قد يتولّى الملف الأمني الاقتصادي الذي يتقاطع العديد من تفاصيله مع الملف السوري، فيما يستمرّ بولس في منصبه الاستشاري في الملفّ اللبناني.
يشير تعاطي برّاك في الملفّين اللبناني والسوري معًا إلى أكثر من مجرّد تقاطع في التفاصيل، فاللبنانيون لم ينسوا بعد زمن الوصاية السورية على عهد الرئيس المخلوع بشّار الأسد وعهد والده من قبله الرئيس الراحل حافظ الأسد، وهم إذ ذاك يتخوّفون من عودة زمن الوصاية بصيغة جديدة أقتصادية وأمنية ربّما في عهد رئيس السلطة المؤقّتة في سوريا أحمد الشرع، بخاصة في ظلّ عدم قدرة السلطة اللبنانية حتى الآن على تنفيذ أيّ من شروط إعادة الإعمار، بخاصة في ما يتعلّق باستعادة السيادة وبسط سلطة القوات الشرعية على جميع الأراضي اللبنانية، بالرغم من إعلان لبنان رسميًّا وفي أكثر من مناسبة الإلتزام بتنفيذ هذه الشروط.
وفيما تستمرّ التجاذبات في لبنان، يبدو أنّ الشرع استطاع أن يقطف حصّة بلاده من خلال المكاسب التي توّجها لقاؤه مع الرئيس الأمريكي في الرياض، فيما يراوح الوضع في لبنان مكانه. وهذا ما يجعل المخاوف اللبنانية مشروعة بخاصة في ظلّ ما يظهر من “الإنكفاء الأمريكي” في المنطقة، لصالح خوض الحروب بالوكالة، وفي لبنان لصالح التركيز على الملف السوري.
الحرب الإسرائيلية- الإيرانية
إنّ التصعيد الأخير المتمثّل بالحرب بين إسرائيل وإيران يؤخّر أكثر فأكثر انطلاق قطار إعادة الإعمار في لبنان العالق أصلًا بين مطرقة الشروط الأمريكية والدولية وسندان الإصلاحات المستعصية ونفوذ حزب الله الذي ما زال يتحكّم إلى حدّ كبير بمفاصل الدولة. ولكن قدرة إسرائيل على حسم هذه الحرب لصالحها ستكون فرصة للدولة اللبنانية لتحقيق شروط إعادة الإعمار مع التراجع البديهي لنفوذ حزب الله حينذاك.
أمّا إذا تأخّر الحسم واستمرّت الحرب، فإنّ مصير إعادة الإعمار سيبقى على الأرجح في مهبّ الريح ، حتّى انجلاء غبار المعارك وتحديد مآل الملفّ النووي الإيراني.
أكثر من عقبة تقف دون إعادة الإعمار في لبنان ونهوضه من كبوته، ولكن العقبة المركزية وهي نفوذ حزب الله تواصل تقلّصها، بخاصة في ظلّ الحرب الإسرائيلية- الإيرانية. وبما أنّ لبنان لم يعد يملك ترف الوقت أو الإنتظار، فإنّ الفرصة الجديدة لإعادة بناء الدولة يجب أن يتلقّفها في أقرب وقت. هل يفعل ذلك فتكون له حصّة “الأسد” من أموال إعادة الإعمار والمساعدات والعودة إلى الخريطة الدولية، أو يعيد التاريخ نفسه فيكون هو ملحقًا بحصّة خليفة الأسد أو غيره، عندما ينفذ الصبر الدولي؟