جورجيا ميلوني لم تعد مجرّد رئيسة وزراء إيطاليا. إنها تتحوّل بسرعة إلى الشخصية الحاسمة في عصر محافظ جديد في أوروبا- تتسم بالاستراتيجية، والحزم، والدور المحوري المتزايد في مستقبل القارّة.
صعود ميلوني يجسّد إعادة ترتيب أوسع في المشهد السياسي الأوروبي. حزبها، “إخوة إيطاليا”، لا يهيمن فقط على الساحة السياسية الإيطالية، بل حقّق أيضًا نصرًا كبيرًا في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2024، حيث حصل على نحو 29٪ من الأصوات على المستوى الوطني. وقد أظهرت حكومتها- المستقرّة على نحو لافت بمعايير السياسة الإيطالية- قدرًا من الاستمرارية والاتّساق نادرًا ما يُرى في روما.
ما كان يُعتبر سابقًا تطرّفًا، تحوّل الآن إلى محافظة محسوبة، قائمة على النتائج، وأقرب إلى التيّار العام أكثر ممّا كان متوقّعًا. حتى في بروكسل، لم تعد ميلوني تُرى كعنصر شاذّ أو متطرّف. في ملفّات مثل الطاقة النووية والدفاع، وسياسات الهجرة، وحماية الصناعة، وضعت ميلوني إيطاليا في موقع فاعل وصاحب قرار. نهجها يجمع بين وضوح أيديولوجي ومرونة دبلوماسية. وعلى عكس زعماء قوميّين آخرين في أوروبا، اختارت ميلوني ألّا تعزل نفسها. فهي تنخرط في الحوار مع وسطيّين مثل إيمانويل ماكرون، مع الحفاظ على علاقات مع فيكتور أوربان. لقد حوّلت خصومًا محتملين إلى شركاء- وأحيانًا إلى حلفاء.
سيّدة التوازن الدقيق
ما يجعل جورجيا ميلوني فعّالة بشكل فريد هو قدرتها على التوازن الدقيق. فهي تحافظ على موقف صارم في قضايا الهجرة، والهوية الوطنية، والقيم الثقافية، مع الاستمرار في الانخراط البنّاء مع مؤسّسات الاتحاد الأوروبي وشركائه الدوليّين. هذا التوازن المتحكّم فيه- محافظة في الداخل، براغماتية في الخارج- سمح لها بتوطيد قاعدتها دون أن تنفّر الأسواق أو المؤسّسات أو الحلفاء. لقد أثبتت أنّ المرء يمكن أن يكون يمينيًّّا أيديولوجيًا من دون أن يكون متهوّرًا دبلوماسيًّا.
في سياق سياستها الخارجية البراغماتيّة، أولت حكومة جورجيا ميلوني اهتمامًا متزايدًا بتعزيز العلاقات مع دول الخليج العربي، إدراكًا منها للدور الاستراتيجي المتنامي الذي تلعبه هذه الدول في قضايا الطاقة والاستثمار والأمن الإقليمي. وقد اتّسمت علاقاتها مع دول مثل المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، بالتوازن والاحترام المتبادل، حيث سعت ميلوني إلى تطوير شراكات قائمة على المصالح الاقتصادية المشتركة، من دون الدخول في مواجهات أيديولوجيّة أو انتقادات علنيّة. وشهدت الفترة الأخيرة تكثيفًا للزيارات المتبادلة والاتّفاقيات الثنائية، بخاصة في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والأمن الغذائي. كما حرصت ميلوني على تأكيد التزام بلادها بدور فاعل في استقرار منطقة الشرق الأوسط، من خلال توسيع التعاون مع دول الخليج في مكافحة الإرهاب ومراقبة تدفّقات الهجرة غير النظامية. هذا النهج المتّزن أكسب إيطاليا موضع قدم متقدّمًا في المنطقة، وعزّز من صورة ميلوني كزعيمة واقعية تتقن إدارة التوازنات المعقّدة على الساحة الدولية.
نموذج مختلف
في وقت تتّسم فيه حكومات أوروبية كثيرة بالهشاشة أو التردّد أو التخبّط، تقدّم ميلوني نموذجًا مختلفًا: شعور بالاتجاه. سواءً اتفق معها المرء أم لا، فإنّها تُرى على نطاق واسع كزعيمة فعّالة، مركّزة، وقادرة على تحقيق نتائج. تأثيرها المتنامي يتجاوز حدود إيطاليا. ففي أوروبا الوسطى والشرقية، وفي البلقان، وفي الأوساط المحافظة عبر القارّة، باتت تُعتبر مرجعًا- ليس فقط من حيث الخطاب، بل من حيث القيادة.
بالنسبة للبعض، تمثّل جورجيا ميلوني انحرافًا خطيرًا عن القيم الليبراليّة. وبالنسبة لآخرين، هي العلاج المنتظر منذ زمن للإرهاق من التكنوقراطية والتفكّك التقدّمي. لكنّ أمرًا واحدًا لا شكّ فيه: لا يمكن تجاهلها. جورجيا ميلوني ليست فقط أقوى امرأة في أوروبا- بل قد تكون أكثر زعيم تأثيرًا اليوم، ومن بين الأكثر قدرة على تشكيل أوروبا المستقبل.