عقيدة ترامب الثانية في الشرق الأوسط: تحوّل استراتيجي أم انسحاب محسوب؟

1000157876

منذ الحرب العالمية الثانية، درجت السياسة الأمريكية على ما يُعرف في الأدبيات الاستراتيجية بـ”عقيدة الرئيس”، وهي الإطار النظري والعملي الذي يوجّه السياسة الخارجية خلال فترة حكمه، ويُستشفّ من خلال قراراته وأولوياته وليس بالضرورة من إعلان رسمي. عُرفت عقيدة ترومان باحتواء الشيوعية، وعقيدة كارتر بضمان أمن الخليج، فيما اقترنت عقيدة بوش الابن بمبدأ “الضربات الاستباقيّة”. أمّا اليوم، فيبدو أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية تمضي نحو بلورة عقيدة جديدة ذات طابع انعزالي واقتصادي، تدمج بين البراغماتية الصلبة، والانسحاب الانتقائي، والتحالفات القائمة على الصفقات.

تتجه السياسة الخارجية الأمريكية في هذه المرحلة نحو تحوّل جذري يعيد ترتيب أولويات واشنطن في العالم، ويترك بصماته المباشرة على المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط. هذا التحوّل، الذي يقوم على نهج يعتمد على تقليص الانخراط العسكري المباشر، وممارسة ضغوط على الحلفاء لتحمّل مزيد من الأعباء، والتوسّع في صفقات السلام والتطبيع، يأتي في إطار مواجهة أوسع للنفوذ الصيني الصاعد. وبالرغم من غياب الإعلان الرسمي عن “عقيدة ترامب الثانية”، إلا أن ممارسات الإدارة الحالية توحي بإطار استراتيجي جديد يعيد تشكيل العلاقة بين الولايات المتحدة والمنطقة.

القضية الفلسطينية عقبة مركزيّة

تلتقط الدول العربية، لا سيّما الخليجية، إشارات واضحة بأن مرحلة الضمانات الأمنية المفتوحة قد انتهت، فالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أبرز حلفاء واشنطن، مطالبتان الآن بإعادة صياغة مفاهيمهما الدفاعية، والاعتماد أكثر على قدراتهما الذاتية، في ظل تراجع الحضور الأمريكي العسكري التقليدي. في المقابل، تراهن الإدارة الأمريكية على توسيع دائرة “اتفاقيات أبراهام”، ودفع مزيد من الدول إلى مسار التطبيع مع إسرائيل مقابل حوافز اقتصادية وتكنولوجية. إلّا أنّ هذا النهج، رغم زخمه السياسي، يصطدم بعقبة مركزيّة لا تزال تؤرق الرأي العام العربي، وتؤثر في استقرار المعادلات الإقليمية، وهي غياب أي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.

في الواقع، يُجمع العديد من المراقبين على أنّ تجاوز الملفّ الفلسطيني في سياق التطبيع يُفرغ مسار السلام من محتواه الحقيقي، ويحوّله إلى ترتيبات سطحية معرّضة للانهيار عند أوّل تصعيد. فالقضية الفلسطينية لا تزال حاضرة بقوة في الوعي الجماعي العربي، وتمثّل معيارًا للعدالة وشرعيّة التحالفات. إنّ أي تجاهل لمطالب الشعب الفلسطيني، سواء على المستوى السياسي أو الرمزي، يُضعف مصداقية الدول المطبّعة أمام شعوبها، ويمنح خصوم واشنطن في المنطقة، وبخاصة إيران، فرصة ذهبية لتوظيف القضية كورقة نفوذ في الخطاب السياسي والميداني. كما أن استمرار الاحتلال وغياب الأفق السياسي يغذّي بيئات التطرّف، ويُبقي المنطقة في حالة توتّر مزمن، يصعب معه بناء استقرار طويل الأمد.

ضغوط قصوى بلا مواجهة مباشرة

في الملفّ الإيراني، تُبقي واشنطن على سياسة الضغط القصوى، لكنها تتجنّب خيار المواجهة المباشرة. العقوبات مستمرّة، والدعم الأمريكي لتحالفات إقليمية مناوئة لطهران يتواصل، لكن ضمن حدود الحذر، تجنّبًا لتورط عسكري جديد. هذا يفتح الباب أمام استمرار الحروب بالوكالة في اليمن وسوريا والعراق، مع تراجع قدرة واشنطن على ضبط الإيقاع الميداني كما في السابق.

أما في مواجهة تغلغل الصين، فتسعى الإدارة الأمريكية إلى استخدام أدوات غير عسكرية لعرقلة صعود بكين في الشرق الأوسط. وتشمل هذه الأدوات توسيع التحالفات الاقتصادية والأمنية التي تُقصي الصين من البنية التحتية الحيوية، وممارسة الضغط على الحلفاء لخفض التعاون مع الشركات الصينية، لا سيّما في قطاعات الاتصالات والطاقة، وتقديم مشاريع بديلة بالتعاون مع دول الخليج. كما توظّف واشنطن خطابًا أيديولوجيًا يركّز على انتهاكات الصين لحقوق الإنسان وخطر الهيمنة الاقتصادية، في محاولة لتقليص جاذبيتها كشريك طويل الأمد. ورغم أهمية هذه المقاربة، إلا أنها تواجه تحدّيات حقيقية في حال لم تُقابَل ببدائل واقعية وموثوقة على المدى البعيد.

يؤمن الرئيس ترامب بقوّة الترتيبات الاقتصادية المتبادلة لمنفعة حفظ السلام والاستقرار، ويتجلّى هذا الإعتقاد في أوضح صوره في منطقة الشرق الأوسط. فقد أسفرت زيارة ترامب الأخيرة عن التزام دول الخليج بصفقات تُقدّر بتريليونات الدولارات، شملت مجالات متنوّعة. وقد برزت المنافسة مع الصين أيضًا كأحد المحاور الرئيسية خلال الرحلة، حيث سارع مسؤولون في الإدارة الأمريكية إلى الإضاءة على  التفاوت الكبير بين الصفقات المقدّرة بتريليونات الدولارات التي أُعلن عنها خلال هذه الزيارة، وبين صفقات بقيمة نحو 50 مليار دولار فقط تمّ توقيعها خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى منطقة الخليج العربي عام 2022. وقد تمّ وضع العديد من هذه الصفقات، لا سيّما في المجال التكنولوجي والمنتجات الإلكترونية المتقدّمة، في إطار الحدّ من النفوذ الصيني.

في المحصّلة، يشهد الشرق الأوسط ولادة نظام إقليمي جديد، يتّسم بتعدديّة الأقطاب وتراجع دور القوّة الأمريكية التقليدية، في مقابل صعود أدوار لقوى إقليمية مثل تركيا وإسرائيل وإيران. كما أنّ بعض الدول العربية تنفتح على شراكات مع الصين وروسيا، وتسعى إلى إعادة صياغة تموضعها الجيوسياسي في ظلّ فراغ نسبي خلّفه الانكفاء الأمريكي. لا يمكن للصفقات وحدها أن تملأ هذا الفراغ وتحمي المنطقة ممّا قد ينتج عنه من مخاطر، في غياب رؤية شاملة تعالج الجذور الحقيقية للصراع. وأهمّ الخطوط الأساسية لهذه الرؤية هو القضية الفلسطينية، فمن دون حلّ عادل ودائم لهذه القضية، تبقى كلّ ترتيبات السلام معرّضة للإنهيار. عقيدة ترامب أثبتت قدرتها على تحقيق مكاسب سريعة في ملفّات التطبيع والتحالفات الإقتصادية، ولكنّها حتى الآن لم تستطع وضع حدّ للصراع وإرساء أسس السلام، لأنّ تجاهل الحقّ الفلسطيني يُبقي الباب مفتوحًا أمام الفوضى والحروب. فهل يعيد الرئيس الأمريكي النظر في عقيدته ويغيّر أسلوب المواجهة، أم يتمسّك بها ويمنح خصومه فرصًا جديدة لإعادة التموضع في نظام الشرق الأوسط الجديد؟

Scroll to Top