نزاع ترسيم الحدود البحرية يهدّد تقارب العراق مع دول الخليج

يهدد نزاع متصاعد بشأن ترسيم الحدود البحرية بين العراق والكويت بتقويض جهود بغداد المتجددة لبناء علاقات أقوى مع جيرانها، ولا سيّما دول مجلس التعاون الخليجي، ويقع في قلب الخلاف ممرّ خور عبد الله البحري، الذي يعد ممرًّا استراتيجيًّا مهمًّا لوصول العراق إلى مياه الخليج عبر ميناء أم قصر.

وتصاعدت حدة القضية في سبتمبر 2023، عندما قضت المحكمة الاتحادية العليا في العراق بـإلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة مع الكويت عام 2012، مستندةً إلى وجود ثغرات إجرائية في عملية المصادقة عليها. لكن القرار فسِّر على نطاق واسع في المنطقة كنكوص عن التزامات العراق السابقة.

ودانت الكويت القرار بشدة، واعتبرته انتهاكًا لسيادتها، داعيةً العراق إلى الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي تم التوصّل إليها تحت إشراف الأمم المتحدة عقب الغزو العراقي للكويت عام 1990، وقال مصدر دبلوماسي كويتي رفيع المستوى إنّ بلاده تنظر إلى هذا القرار على أنه تراجع خطير عمّا تمّ التوافق عليه سابقًا، وهو يمسّ بشكل مباشر أمن الكويت وسيادتها البحرية.

تداعيات دبلوماسية

أدّى هذا النزاع إلى تجميد بعض المشاريع الاقتصادية والتجارية المشتركة التي كانت قيد المناقشة، بما في ذلك ربط العراق بشبكة الكهرباء الخليجية وتمويل مشاريع استثمارية في البصرة والفاو، ومن جانبها، تولّت الحكومة العراقية امتصاص الغضب الخليجي، مؤكدة التزامها بالتفاوض وتهدئة الخلاف.

وصرّح مستشار الشؤون الخارجية في الحكومة العراقية، د. إحسان العوادي: “نحن لا نسعى لتقويض علاقاتنا مع الكويت أو دول الخليج. الموضوع قانوني داخلي، والحكومة ملتزمة بالتعامل معه ضمن الأطر الدبلوماسية الهادئة.”

موقف مجلس التعاون الخليجي: دعم كامل للكويت

في أعقاب الحكم العراقي بإلغاء اتفاقية خور عبد الله، أصدر مجلس التعاون لدول الخليج العربية بيانًا رسميًا عبّر فيه عن “الرفض القاطع لأي مساس بسيادة دولة الكويت”، مؤكدًا أن الاتفاق الموقع عام 2012 هو اتفاق ثنائي معترف به دوليًا، وجرى ضمن قرارات مجلس الأمن التابعة للأمم المتحدة.

وجاء في البيان أن “مجلس التعاون يؤكد وقوفه الكامل مع دولة الكويت، ورفضه لأي إجراءات أحاديّة من شأنها التأثير على الحقوق السيادية الكويتية أو تقويض استقرار المنطقة البحرية في الخليج العربي”، داعيا العراق إلى الوفاء بالتزاماته القانونية والدولية، مشدّدًا على أن الحفاظ على أمن واستقرار الحدود البحرية يمثّل “خطًا أحمر” لجميع دول المجلس.

وقد اعتُبر هذا البيان بمثابة تبنٍّ رسمي خليجي للموقف الكويتي، ورسالة واضحة بأنّ أيّ تصعيد في الملف البحري لن يُنظر إليه كخلاف ثنائي فقط، بل كقضية خليجية جماعية تمسّ الأمن الإقليمي.

ونقلت الكويت هذا الملف إلى القمة العربية الرابعة والثلاثين، التي عقدت في بغداد في 17 مايو 2025، وتناول البيان الختامي قضية خور عبد الله بشكل صريح، حيث أكد على دعم سيادة الكويت، ورفض أي إجراءات أحادية من جانب العراق تمسّ بالاتفاقيات الدولية، ولا سيّما اتفاقية تنظيم الملاحة الموقعة عام 2012. ودعت القمة العراق إلى الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 833 واستكمال ترسيم الحدود البحرية وفق القانون الدولي، معتبرة أن حكم المحكمة العراقية بإلغاء الاتفاق باطل وغير ملزم، ومطالبة بالحفاظ على الأمن البحري المشترك ومنع التصعيد.

أسباب التخوف الكويتي من قرار المحكمة العراقية

أثار قرار المحكمة الاتحادية العليا في العراق بإلغاء اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله قلقًا بالغًا لدى الكويت، لما يحمله من تهديدات قانونية وسياسية مباشرة، فهي تراه كمحاولة لنقض اتفاق دولي موثق لدى الأمم المتحدة، تم توقيعه عام 2012 وجرى تنفيذه وفق قرار مجلس الأمن رقم 833 الصادر عام 1993.

كما تخشى الكويت من أن يفتح القرار الباب أمام مراجعة ترسيم الحدود البحرية والبرية الثابتة دوليًا، وهو ما تعتبره سابقة خطيرة تقوّض مبادئ القانون الدولي واستقرار الحدود، فقرار المحكمة العراقية لا يمثّل فقط انتكاسة قانونية، بل يضرب جوهر الثقة السياسية بين الكويت والعراق.

ويأتي هذا القرار في توقيت إقليمي حسّاس، يتقاطع مع التوترات الجارية حول حقل الدرة بين الكويت والسعودية من جهة، وإيران من جهة أخرى، ما يعزز الانطباع الكويتي بأن هناك ضغوطًا مزدوجة تُمارَس على سيادتها البحرية من جهتين: العراق وإيران.

دور إيران: نفوذ غير مباشر

رغم أن النزاع يُطرح كخلاف ثنائي بين العراق والكويت، إلا أن إيران تظل حاضرة بقوّة في خلفية المشهد. ويرى مراقبون أن طهران تستفيد من تفاقم النزاع دون أن تتورط فيه مباشرة، بهدف إعاقة التقارب بين العراق ودول الخليج، لا سيّما في مجالات الطاقة والربط الاقتصادي.

وتؤكد مجموعة من الباحثين في الشأن الإيراني بأن إيران تفضل عراقًا منشغلاً بقضاياه الحدودية والسيادية بدلاً من عراق منفتح على الخليج سياسيًا واقتصاديًا، فذكريات الحرب العراقية الإيرانية التي راح ضحيتها أكثر من مليون شخص تجعل طهران تنظر بريبة إلى عودة العراق إلى الحضن العربي مجددا.

وتمتلك إيران نفوذًا واسعًا داخل العراق، بخاصة عبر أحزاب وفصائل مسلحة مقربة منها، يُعتقد أنها تمارس ضغطًا ضمنيًا ضد الانفتاح العراقي على الخليج العربي. كما تخشى إيران من أن ميناء الفاو الكبير قد يشكل تهديدًا لموانئها مثل بندر عباس إذا تم ربطه تجاريًا بدول الخليج وأوروبا.

ورغم الصمت الإيراني الرسمي حيال القضية، إلا أن غياب أي إدانة أو تحرك واضح من طهران اعتُبر في الأوساط الخليجية بمثابة موافقة ضمنية على تصعيد الموقف العراقي تجاه الكويت.

ترابط النزاع مع حقل الدرة: الضغط على الكويت من اتجاهين

يأتي تصعيد الخلاف البحري بين العراق والكويت في وقت تخوض فيه الكويت والسعودية أيضًا نزاعًا متجدّدًا مع إيران بشأن حقل الدرة، الواقع في قبالة الساحل الكويتي المطل على مياه الخليج، فيرى مراقبون أن هناك تشابهاً استراتيجياً بين الملفين: كلاهما يدور حول ترسيم حدود بحرية حساسة، وكلاهما يشكل تهديدًا لسيادة الكويت البحرية. كما أن إيران تُعد طرفًا مباشرًا في نزاع الدرة، وغير مباشر في نزاع خور عبد الله.

وبينما تطالب طهران بالمشاركة في استغلال حقل الدرة، فإنها تصمت عن أزمة خور عبد الله، ما يفسّره بعض المحلّلين بأنه انسجام في المصالح، وربما محاولة لـ”محاصرة” الكويت من اتجاهين: الشمال (العراق) والشرق (إيران).

هل من مخرج؟

تسعى بغداد والكويت، بوساطة من أطراف دولية، إلى نزع فتيل الأزمة. ودعت الكويت إلى استئناف الحوار الثنائي مع العراق، شريطة أن يكون تحت مظلة الأمم المتحدة أو برعاية طرف ثالث محايد، بخاصة في ما يتعلق باستكمال ترسيم الحدود البحرية لما بعد العلامة 162. كما أكدت على ضرورة الحفاظ على التفاهمات الأمنية البحرية السابقة، ودعت العراق إلى العودة إلى بروتوكول التعاون الأمني لعام 2008 وخارطة عام 2014 لضمان سلامة الملاحة في الممر المشترك.

يأتي المقترح الكويتي ضمن رؤية تسعى إلى احتواء الأزمة عبر القانون الدولي والدبلوماسية الهادئة، دون تقديم تنازلات تمسّ السيادة أو تفتح الباب لمراجعة حدود مستقرة منذ عقود، بينما يظل حل الأزمة البحرية اختبارًا حاسمًا لمسار العراق الإقليمي في السنوات القادمة.

Scroll to Top