بقلم إيمان الشعنبي
مستشارة في الجغرافيا السياسية والمراقبة الاستراتيجية
بعد أربعة عشر عاماً على سقوط معمّر القذّافي، لا تزال ليبيا تعاني من انقسام عميق. تتنازع سلطتان متنافستان السيطرة على بلد يتمتّع بموارد استراتيجية هائلة، لكنّه يفتقر إلى حكم مركزي فعّال. في الشرق، يسيطر المشير خليفة حفتر بقبضة من حديد على منطقة برقة، معتمدًا على حكومة مركزية، وفي منطقة طرابلس، يحاول عبد الحميد الدبيبة الحفاظ على سلطته في العاصمة من خلال شبكة من الميليشيات المتزايدة الاضطراب.
وهكذا، تنقسم البلاد بين مشروعين متعارضين: من جهة، مشروع سلطوي تقوده سلطة عسكرية متّهمة بالسعي إلى عسكرة ليبيا؛ ومن جهة أخرى، سلطة مدنية ظاهريًّا، لكنها غارقة في شبكة من الميليشيات التي تُضعفها وتُفقدها الشرعية.
من بنغازي إلى طرابلس، تدور الأزمة الليبية في حلقة مفرغة. فعلى الرغم من المؤتمرات والوساطات والتنقّلات الدبلوماسية بين العواصم الأجنبية، لم تظهر أي حلّ دائم. كلّ طرف متمسك بالسلطة، يعمل على تحصين مواقعه، تسليح أنصاره، ورسم خريطة نفوذه.
الاحتجاجات الشعبية، إلى جانب الأزمة الأمنية المزمنة التي تهزّ طرابلس، خلقت فراغًا مؤسّسيًّا ومناخًا من انعدام الثقة تجاه السلطات القائمة. وفي هذا السياق من الانقسام وغياب البنى المؤسسية الصلبة، وجد الإسلام السياسي أرضًا خصبة للظهور والتجذّر في ليبيا.
شرق ليبيا: مشروع عسكري منظم حول حفتر
يعتمد خليفة حفتر، قائد “الجيش الوطني الليبي”، على جيش تم تشكيله من بقايا نظام القذافي ومن خلال عسكرة متزايدة لمنطقة برقة. تمتدّ سلطته على معظم الشرق والجنوب، ويدير شبكة من القواعد العسكرية البرية والجوية الحديثة، بخاصة في بنغازي.
تجدر الإشارة إلى أن القاعدة الجوية في “معطن السارة”، الواقعة قرب حدود تشاد والسودان، تستضيف حاليًّا قوات روسية وسورية. وقد أُعيد تفعيل هذه القاعدة في عام 2024، وتوشك أن تصبح مركزًا لوجستيًّا أساسيًّا للعمليات الروسية في إفريقيا. ترى موسكو فيها نقطة ارتكاز استراتيجية لإبراز قوتها في منطقة الساحل، بخاصة في مالي وبوركينا فاسو، وتأمين طرق نفوذها نحو السودان وشرق إفريقيا. هذا التموضع يؤكد اهتمام روسيا المتزايد بالحدود الليبية كبوابة للنفوذ في القارة.
يسيطر حفتر أيضًا على الجزء الأكبر من “الهلال النفطي” الليبي، الذي يضم الموانئ والحقول الرئيسة مثل رأس لانوف، السدرة، البرقة، الزويتينة، و”الشرارة”. هذه المنشآت تؤمن الغالبية العظمى من دخل الدولة.
رغم ذلك، فإن إدارة هذه الحقول تبقى من صلاحية “المؤسسة الوطنية للنفط” ومقرّها طرابلس، بينما تتولّى أمنها قوة مشتركة من حراس المنشآت ومجموعات مسلحة محلية. بعض هذه الجماعات محسوب اسمًا على حكومة الدبيبة، بينما يرتبط البعض الآخر بحفتر، أو يتعاون معه ظرفيًّا.
غرب ليبيا: حكم مدني تحت التوتّر
منذ تعيين عبد الحميد الدبيبة رئيسًا لـ”حكومة الوحدة الوطنية”، ظلّت مسألة الأمن في طرابلس هشّة للغاية. فرغم احتفاظه بمنصب وزير الدفاع، لا يمتلك الدبيبة جيشًا موحّدًا ومنظمًّا. هذا الغياب للقيادة العسكرية المتماسكة يُضعف موقفه ويعكس استمرار الانقسام الأمني في ليبيا.
استقالة رئيس أركانه، الفريق محمد الحداد، ونائبه صلاح الدين النمروش، بعد مواجهات عنيفة في العاصمة، تؤكد هشاشة القيادة الرسمية. فعليًّا، يعتمد الدبيبة على شبكة معقدة من الميليشيات، ولاؤها متقلب ويخضع في الغالب لمصالح آنيّة.
وتصف الحكومة الوضع بـ”الأمن المعقّد”، ممّا دفع رئيس الوزراء إلى حلّ “قوات دعم الاستقرار”، التي كان يعوّل عليها. هذا القرار أدّى إلى تأزيم علاقاته مع ميليشيات أخرى، وعلى رأسها “قوّة الردع الخاصة” بقيادة عبد الرؤوف كارة، الحليف السابق الذي تحوّل إلى خصم، ممّا يُبرز التنافس المتزايد بين الفصائل.
عسكرياً، يستند الدبيبة حالياً إلى “اللواء 444″، و”قوّة العمليات المشتركة” في مصراتة، وعدّة تشكيلات أخرى مثل “كتيبة 55”. وتدعم هذه البنية قوة خارجية أساسية، هي تركيا، التي تقدم طائرات بدون طيار من طراز “بيرقدار TB2″، أنظمة رادار، وتُشغّل قواعد عسكرية في غرب ليبيا. ورغم أهمية هذا الدعم، إلّا أنه لا يضمن استقرارًا دائمًا.
تعكس القواعد العسكرية غرب البلاد، خاصة في الوطية، ومعيتيقة، ومصراتة، وعدد من معسكرات طرابلس، درجة عالية من العسكرة. فهذه القواعد ليست مجرّد مراكز لوجستية، بل أدوات لهيمنة الميليشيات على مفاصل العاصمة وضواحيها. كما أنّ وجود مرتزقة سوريين في معسكرات مثل اليرموك، يزيد الوضع تعقيدًا وتوتّرًا.
تبقى طرابلس المركز الإداري والرمزي للدولة، وتحتضن المؤسسات الرسمية الكبرى. لكنها عاجزة فعليًّا عن فرض سلطتها أمام نفوذ الجماعات المسلحة. وهكذا، يُمارس الحكم من خلال تحالفات متبدلة بين ميليشيات، وداعمين خارجيين، وصراعات شخصية.
نحو مأزق أم مواجهة جديدة؟
يظلّ نفوذ حكومة الوحدة الوطنية في الغرب هشًّا ومتغيّرًا، بخاصة في المناطق الحدودية مع تونس، الجزائر، والنيجر. وتُعدّ مناطق مثل أوباري، غات، ومرزق، التي يسكنها الطوارق والتبو، شبه خارجة عن السيطرة المركزية. ويعود ذلك لعوامل متعدّدة: المساحة الشاسعة، وضعف الحضور الحكومي، واستمرار تأثير الجماعات المسلحة والقبلية.
منذ توقف القتال الكبير في طرابلس في يونيو 2020، جُمّدت جبهة الغرب حول مدينة سرت، التي تُعدّ نقطة الفصل بين قوات حفتر وتلك الموالية للدبيبة. يُحكم حفتر سيطرته على سرت، بينما تتمركز قوات الدبيبة غرب المدينة، بخاصة عند تخوم مصراتة، معقلها الأبرز.
تُبرز هذه الخطوط صعوبة التوفيق بين قوى متناحرة بعمق، وتعقيد المشهد الجغرافي والسياسي، حيث يسعى كل طرف إلى توسيع أو تثبيت نفوذه في وجه خصم لا يقلّ تصميمًا.
الدولة الليبية: وهم البحث عن الوحدة
ليبيا اليوم دولة بلا دولة، تحكمها كتلتان متنافرتان، تتصارعان على السلطة وتُسخّران الموارد الطبيعية، القواعد العسكرية، المؤسسات الشكلية، والتحالفات الخارجية لتحقيق أهدافهما. وطالما استمرّت عقلية الحكم العسكري في الشرق، ونظام المحسوبية الميليشياوية في الغرب، فلن يظهر أيّ مسار سياسي موثوق.
التحدّي اليوم لم يعد في مجرد “إعادة بناء الدولة”، بل في تفكيك الأنظمة الموازية العميقة التي ترسّخت منذ سنوات. وهي مهمة جبّارة لا يمكن إنجازها إلا بتوافق وطني، ووساطة دولية جادّة، وإرادة شعبية حقيقية.