صراع النفوذ في القطب الشمالي: غرينلاند تعود إلى الواجهة الجيوسياسية

بقلم : بريت شابيل

مصرفي أمريكي مقيم في الدنمارك

تشهد منطقة القطب الشمالي تحوّلًا متسارعًا في موازين القوى الدولية، وها هي جزيرة غرينلاند تعود لتحتلّ موقعًا استراتيجيًّا حسّاسًا وسط تصاعد التنافس بين القوى الكبرى. التطورات الأخيرة تشير إلى تصعيد واضح في التوتّرات، مع تغيّرات لافتة في تموضع الولايات المتحدة، ومواقف حازمة من الدنمارك، وحضور أوروبي متزايد.

الولايات المتحدة تعيد ترتيب أوراقها

في خطوة استراتيجية، قرّر البنتاغون إخضاع غرينلاند لقيادة الشمال الأمريكية (U.S. Northern Command)  بدلًا من القيادة الأوروبية. هذه الخطوة تمثل إعادة تموضع دفاعي في ضوء المستجدّات في القطب الشمالي، بخاصة مع تزايد أهمية المنطقة في مجالات الأمن واللوجستيّات والمراقبة الجوية.

في الوقت عينه، عادت واشنطن للتأكيد على أهمية غرينلاند لما تسميه “السلامة والأمن الدوليين”، وهو خطاب يعيد للأذهان ما طرحته إدارة الرئيس ترامب سابقًا بشأن إمكانية شراء الجزيرة، وهي فكرة أثارت جدلًا واسعًا آنذاك، ولا تزال تداعياتها ماثلة.

كوبنهاغن تردّ: “غرينلاند ليست للبيع”

الرد الدنماركي كان سريعًا وحاسمًا. فقد وصفت رئيسة الوزراء ميته فريدريكسن الضغوط الأمريكية الأخيرة بأنها “غير مقبولة”، واستدعت حكومتها القائم بالأعمال الأمريكي لطلب توضيحات بشأن أنشطة استخباراتية في الجزيرة. وأكدت أنّ أيّ تغيير في وضع غرينلاند السيادي لا يمكن أن يتم دون إرادة سكانها.

فرنسا تدخل على الخط والاتحاد الأوروبي يرفع الصوت

في تحرّك دبلوماسي لافت، أعلن قصر الإليزيه أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون سيزور غرينلاند في 15 يونيو، برفقة رئيسة وزراء الدنمارك. الهدف المعلن هو دعم الحكم الذاتي لغرينلاند، وتعزيز الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وسكان القطب الشمالي.

ولم يُخفِ بعض المحللين الأوروبيين إمكانية أن تتخذ فرنسا خطوات رمزية أو عسكرية لدعم هذا التوجه.

غرينلاند: من الهامش إلى محور الصراع

على عكس ما كانت عليه سابقًا، لم تعد حكومة غرينلاند تكتفي بدور المتلقي. بل أعلنت سعيها لتوسيع التعاون ضمن اتفاقية الدفاع الأمريكية- الدنماركية لعام 1951، لا سيّما في مجالات التعليم، والبنية التحتية، والتغير المناخي. وتُعدّ هذه الخطوة محاولة ذكية لتحقيق مكاسب مدنية من الشراكة العسكرية القائمة، بخاصة مع تحوّل قاعدة ثول الجوية إلى قاعدة بيتوفيك الفضائية.

وفي مؤشّر آخر على تنامي دورها السياسي، تولّت الدنمارك رئاسة مجلس القطب الشمالي، وتمّ تعيين وزير خارجية غرينلاند نائبًا للرئيس، في خطوة تعزّز تمثيل الشعوب الأصلية في الحوكمة الإقليمية.

القطب الشمالي: موارد وممرّات ونفوذ

يمثّل القطب الشمالي أحد أبرز مسارح التحوّل الجيوسياسي في القرن الحادي والعشرين. فذوبان الجليد يفتح طرقًا بحرية جديدة مثل الممرّ الشمالي الغربي والطريق البحري الشمالي، ويكشف عن كنوز طبيعية هائلة من النفط والمعادن النادرة.

روسيا ضاعفت وجودها العسكري هناك، بينما تواصل الصين استثماراتها العلمية واللوجستية تحت شعار كونها “قوّة قريبة من القطب”. وفي هذا المشهد، تقع غرينلاند في قلب التوازن الاستراتيجي بين الشرق والغرب.

هل تكون السيادة هي خطّ الدفاع الأخير؟

رغم ضغوط واشنطن وتحرّكات الحلفاء، فإنّ الوضع القانوني لغرينلاند يبقى واضحًا: هي منطقة تتمتّع بالحكم الذاتي ضمن مملكة الدنمارك، ويكفل لها قانون الحكم الذاتي لعام 2009 حقّ تقرير المصير، بما في ذلك خيار الاستقلال مستقبلًا.

وعليه، فإنّ أيّ محاولات للتعامل معها كأرض قابلة للبيع أو كنقطة على خريطة النفوذ ستكون في تضادّ مباشر مع القانون الدولي، وقد تُشعل صراعًا دبلوماسيًّا أوسع.

توازن هشّ في زمن متغيّر

الصراع في القطب الشمالي لم يعد مجرد صراع على الموارد أو طرق التجارة، بل أصبح صراع سرديّات ونفوذ. وبينما تسعى الولايات المتحدة لتثبيت وجودها الأمني، تتحرك أوروبا والدنمارك وغرينلاند لحماية السيادة وتعزيز الحوكمة متعدّدة الأطراف.

ومع تصاعد حرارة الأرض والسياسة معًا، يبدو أن القطب الشمالي لم يعد مساحة فارغة، بل رقعة شطرنج حسّاسة، حيث كل خطوة تُحسب بدقّة، وأيّ خطأ قد يُكلّف الجميع ثمنًا باهظًا.

Scroll to Top