تشهد موازين القوى العالمية إعادة تشكيل من خلال استراتيجيتين ضخمتين للبنية التحتية: مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI)، والممر الاقتصادي الهندي الشرق الأوسطي الأوروبي (IMEC) بقيادة الولايات المتحدة. هذان المشروعان لا يمثلان مجرد خطط اقتصادية، بل هما أدوات جيوسياسية تهدف إلى تشكيل التحالفات، وترسيخ النفوذ، وضمان الوصول إلى مناطق استراتيجية. وفي قلب هذا الصراع تقف دول الخليج العربي، التي تجعلها جغرافيتها واقتصاداتها لاعبة رئيسية في هذا التحول العالمي، إلى جانب أوروبا التي تسعى إلى تعزيز أمنها الاقتصادي وإعادة توجيه سلاسل الإمداد الخاصة بها.
IMEC: رد غربي بطموحات استراتيجية
أُطلق ممر IMEC خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي عام 2023، ليكون الرد الغربي الأكثر طموحًا حتى الآن على مبادرة الصين. ويحظى هذا المشروع بدعم الولايات المتحدة والهند والاتحاد الأوروبي، إلى جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ويهدف إلى إنشاء شبكة بنية تحتية متعددة الوسائط تشمل السكك الحديدية، وخطوط الشحن البحري، وكابلات البيانات، وربما خط أنابيب للهيدروجين تتمكن من ربط شبه القارة الهندية بأوروبا مرورًا بشبه الجزيرة العربية وشرق المتوسط.
بعكس النموذج التمويلي المركزي لمبادرة الحزام والطريق الصينية، يتم تقديم IMEC كمشروع متعدد الأطراف وشفاف ومحفز للسوق، ما يجعله جذابًا للحكومات التي تشعر بالقلق من الوقوع في فخ الديون أو التأثير السياسي. ويُظهر المشروع أيضًا طموحات دبلوماسية، إذ يمر عبر الأردن وإسرائيل، ما يعزز من جهود التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وهو هدف استراتيجي أميركي.
دول الخليج: من مراكز للطاقة إلى بوابات استراتيجية
تنظر دول مجلس التعاون الخليجي إلى IMEC لا كخيار أيديولوجي، بل كفرصة واقعية. وبالنسبة للسعودية والإمارات، اللتين تمثلان العقدة اللوجستية الرئيسية للممر، فإن المشروع يتماشى تمامًا مع خطط التنمية طويلة الأمد مثل رؤية السعودية 2030 واستراتيجية الإمارات الصناعية المعروفة بخطة “300 مليار” التي سترفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 300 مليار درهم ( 82 مليار دولار أمريكي) بحلول 2031.
ورغم أن الرياض وأبوظبي جزءان من مبادرة الحزام والطريق الصينية ولديهما علاقات قوية مع بكين، إلا أن انخراطهما في IMEC يشير إلى استراتيجية تعددية المسارات بهدف الاستفادة القصوى من كلا الطرفين لتعظيم الاستثمارات والنفوذ.
أما بالنسبة لأوروبا فالممر الاقتصادي IMEC سيسمح لها بتموضع استراتيجي في سلاسل الإمداد العالمية، فرغم أن مشروع IMEC نشأ كردٍّ غربي على توسع نفوذ الصين عبر مبادرة الحزام والطريق، فإن الاتحاد الأوروبي ليس مجرد طرف داعم، بل مستفيد رئيسي من هذا الممر الجديد، إذ عانت أوروبا في السنوات الأخيرة من اضطرابات في سلاسل التوريد العالمية بسبب جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا، والاعتماد المتزايد على طرق شحن تمر عبر مناطق النزاع أو النفوذ الصيني.
ويمثل IMEC فرصة لأوروبا لإعادة توجيه سلاسل الإمداد الخاصة بها عبر ممرات أكثر تنوعًا وأقل هشاشة. من خلال ربط الهند مباشرة بالأسواق الأوروبية، يمكن تقليص أوقات الشحن بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالطرق التقليدية عبر قناة السويس.
وتتنافس دول مثل إيطاليا، اليونان، وفرنسا لاستضافة نقطة النهاية الأوروبية للممر، ويبرز ميناء ترييستي الإيطالي كمرشح قوي لهذا الدور. كما يُعزز المشروع فرص الاستثمار في البنية التحتية الأوروبية، ويخفف من الاعتماد المفرط على السلع والتكنولوجيا الصينية، خاصة في قطاعات حساسة كالتكنولوجيا والطاقة المتجددة.
هذا ويتكامل IMEC أيضًا مع خطة الاتحاد الأوروبي “البوابة العالمية” (Global Gateway) التي تسعى لتعزيز النفوذ التنموي الأوروبي في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، مما يجعل الممر أداة مزدوجة للنمو الاقتصادي والتأثير الجيوسياسي.
تركيا: الغائب الحاضر
في مقابل الحضور الأوروبي، يشعر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالإقصاء، معلنًا أن “لا ممر تجاري بين الشرق والغرب يمكن أن يستثني تركيا”. وقد أطلقت أنقرة مشروع “طريق التنمية” بالتعاون مع العراق وقطر والإمارات، في محاولة لفرض مسار بديل يربط الخليج بأوروبا عبر تركيا. لكن عوامل مثل تقارب أنقرة مع الصين وروسيا، وخلافاتها مع إسرائيل والولايات المتحدة، تعرقل انضمامها إلى IMEC.
التطبيع السعودي–الإسرائيلي: البعد السياسي للممر
رغم تقدم العلاقات خلف الكواليس، لا تزال الرياض تصر على أن أي تطبيع مع إسرائيل يجب أن يسبقه قيام دولة فلسطينية مستقلة. ومع ذلك، فإن مشاركة وفد إسرائيلي في اجتماع لليونسكو في السعودية عام 2024 شكلت إشارة رمزية قوية على انفتاح تدريجي. وتتواصل المفاوضات حول ضمانات أمنية وبرنامج نووي مدني، بدعم من واشنطن.
وفي ذات الوقت، تتجه دول الخليج، ومعها أوروبا، إلى تبني دبلوماسية متعددة المحاور، تهدف إلى تنويع الشركاء دون التورط في صراعات القطبين. IMEC بالنسبة للطرفين ليس مجرد مشروع بنية تحتية، بل أداة لترسيخ الاستقلالية الاستراتيجية وسط عالم متقلب.
مشاريع قائمة تدعم البنية البحرية لممر IMEC
وبدأت الدول المعنية بتنفيذ مشروع IMEC فعليًا من خلال عدد من المشاريع البحرية والبنية التحتية المرتبطة به، ما يدل على جدية التوجه نحو تحويل هذا الممر إلى واقع ملموس في سلاسل الإمداد العالمية. في الهند، وافقت الحكومة على إنشاء ميناء فادهافان على الساحل الغربي بميزانية تفوق 9 مليارات دولار، ليكون أحد أعمق الموانئ في البلاد وقادرًا على استقبال السفن العملاقة، ما يجعله حلقة رئيسية في الممر. كما دخل ميناء فيزينجام الدولي في ولاية كيرالا الخدمة في 2025، بصفته أول ميناء حاويات عميق في الهند، وموقعه الاستراتيجي يجعله مثاليًا للتجارة المتجهة نحو الخليج وأوروبا.
في الشرق الأوسط، تعمل إسرائيل والأردن على إنشاء خط سكة حديد بطول 300 كيلومتر يربط ميناء حيفا بالعاصمة عمّان، ما يُسهم في تسهيل تدفق البضائع من الهند عبر الخليج إلى أوروبا. في المقابل، تعمل السعودية على تطوير شبكات النقل الداخلية، وخاصة الطرق والسكك الحديدية، لتسهيل الربط البري مع الأردن وإسرائيل، وتعزيز التكامل ضمن الممر الشمالي.
أما في الإمارات، فقد تم إطلاق منصة رقمية للتجارة تُعرف باسم MAITRI بالتعاون مع الهند، لرقمنة وتسهيل العمليات التجارية بين الموانئ الهندية والإماراتية، مما يزيد من الكفاءة التشغيلية ويقلل من زمن العبور البحري.
الممرات كرموز لقوة المستقبل
يمثل كل من IMEC وBRI رؤيتين متنافستين لعالم الغد، الأولى ترتكز على التعاون متعدد الأطراف والاقتصاد الأخضر، والأخرى تقودها الصين عبر نموذج الدولة المركزية. في وسط هذا المشهد، تشكل دول الخليج وأوروبا القلب النابض الجديد لسلاسل التجارة، وأدوات الجذب الجغرافي السياسي على المستوى العالمي.
في هذا العصر الجديد، لم تعد القوة تمر فقط عبر واشنطن أو بكين بل أنها باتت تمر أيضًا عبر الرياض، أبوظبي، ترييستي، وأثينا.