يشهد الدور الأمريكي في لبنان نقطة تحوّل بارزة في ظلّ التطوّرات السياسية العسكرية في الشرق الأوسط. فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله المدعوم من إيران في أكتوبر من العام 2024، لعبت الولايات المتحدة دورًا محوريًّا في التوسّط لوقف إطلاق النار. ومع تراجع قوة حزب الله والنفوذ الإيراني في لبنان، ظهرت ملامح دور أميركي أكبر وأكثر عمقًا، يؤشّر إلى أنّ واشنطن تعمل على تعزيز الاستقرار وضبط موازين القوى المحلية لصالح الدولة اللبنانية.
هذا الدور المتنامي يظهر جليًّا في غالبية تصريحات المسؤولين الأمريكيين التي سبقت وتلت اتفاق وقف النار. الرعاية الأمريكية لهذا الاتفاق من الِفِه إلى يائِه وترؤّس الولايات المتحدة للجنة مراقبة وقف إطلاق النار بين الجانبين، بالإضافة إلى الشروط الأمريكية لإعادة الإعمار وغيرها من المواقف، تعكس تطوّر الدور الأمريكي في لبنان وتقدّم هذا الأخير على خارطة واشنطن الاستراتيجية في الشرق الأوسط. فما هي أهداف الدور الأمريكي في لبنان؟ ما هي حدوده؟ وما الذي يمكن أن يعرقله؟
السفارة – القاعدة
السفارة الأمريكية في منطقة عوكر (شمال العاصمة بيروت) تواصل تمدّدها على مساحة أكثر ضخامة ومركزية، إذ بلغت مساحتها 174 ألف متر مربّع، أي ما يبلغ عشرة أضعاف مساحة القصر الجمهوري اللبناني، وضعفي مساحة البيت البيض، في ما يُعتبر دلالة ظاهرة للعيان على الاهتمام الأمريكي المتزايد بلبنان إلى حدّ اعتباره “قاعدة عمليات” سياسية واقتصادية وربما أمنية لواشنطن في الشرق الأوسط.
يتلخّص الدور الأمريكي في لبنان بمزيج من الحضور التاريخي والتدخلات الحديثة، ويعكس التزامًا طويل الأمد بدعم استقراره وتعزيز مؤسساته. ومع استمرار الأزمات الأمنية والسياسية في المنطقة، يبدو أنّ واشنطن تعيد صياغة استراتيجيتها بما يتلاءم مع أولويّاتها الإقليمية.
فعلى الصعيد الأمني زادت الولايات المتحدة حضورها على أكثر من صعيد، ورفعت دعمها للجيش اللبناني من خلال برامج تدريب مكثفة وتزويده بمعدات متطورة لمحاربة الإرهاب وتعزيز الأمن، مما عكس على مدى طويل الرؤية الأمريكية لأهمية هذا الجيش كركيزة للاستقرار. أمّا الآن، وبعد الحرب الأخيرة فقد برز حضور واشنطن الفاعل من خلال رعاية وقف إطلاق النار وترؤّس اللجنة العسكرية المكلفة مراقبة تنفيذه، ورفع دعم الجيش اللبناني بمليارات الدولارات لتطبيق انتشاره على الحدود الجنوبية منطقة نفوذ حزب الله.
دور متعاظم
يأتي تعاظم الدور الأمريكي في لبنان مع تراجع الدور الإيراني الذي تسعى إيران جاهدةً إلى استعادته واستغلاله في المفاوضات مع واشنطن حول الملف النووي. ومهما كانت نتائج هذه المفاوضات، فإنّ الدور الأمريكي في لبنان لا يبدو نه قد يشهد تراجعًا، فالثابت الأمريكي لبلدان الشرق الأوسط هو “السلام الاقتصادي” بشهادة تصاريح الدبلوماسيين، وواشنطن مصممة على تحقيقه بمختلف الطرق.
اقتصاديا، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية لبنان خلال أزمته المالية المستمرة منذ العام 2019، عبر تقديم مساعدات إنسانية مباشرة، والمشاركة في الجهود الدولية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني من الانهيار، شرط تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
أمّا اليوم، فينصبّ اهتمام واشنطن على قيادة إعادة الإعمار عبر استثمارات بمليارات الدولارات، بمشاركة خليجية وسعودية بشكل خاص، وبالتالي قطع الطريق على أي استثمارات قد تأتي من خارج الدائرة المرسومة.
الإستثمار بدلا من الصندوق
وفي تطوّر لافت، حملت التصريحات الأخيرة لنائبة الموفد الأمريكي إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس خلال مشاركتها في منتدى قطر الاقتصادي الذي عُقد في 21 مايو، مقاربة مغايرة قد تُشكّل انعطافه مهمّة في مسار التعاطي مع الأزمة اللبنانية عموماً، وخصوصاً في شقّها المالي والاقتصادي إذ قالت: “صندوق النقد الدولي ليس الخيار الوحيد… لدي رؤية وخطة كبيرة يمكن أن تجعل لبنان لا يحتاج إلى الصندوق، بل يتحوّل إلى بلد استثمارات… “
إنّ ما تفوّهت به المندوبة الأمريكية لا يُمثّل بالضرورة انقلاباً على خيار الصندوق، لكنّه يفتح بابًا واسعًا لإعادة النظر في طبيعته وجدواه، خصوصاً في ظل الانقسام السياسي الداخلي في لبنان حيال شروط الصندوق. فهل تهيّئ واشنطن الأرضية لمسار اقتصاديّ موازٍ، أو لخطة إنقاذ بديلة أمريكية بحتة، لا تمر عبر مؤسسات التمويل الدولية التقليدية؟
لا إجابات محددة حتى اللحظة، لكنّ اللافت في طرح أورتاغوس أنّها لم تكتفِ بالإشارة إلى وجود “بدائل”، بل ربطت هذه البدائل بتصوّر استثماري واضح. إذ شدّدت على ضرورة تحويل لبنان إلى “بلد جاذب لرؤوس الأموال الأجنبية”، معتبرة أنّ هذا الخيار “يمنح الدولة اللبنانية قدرة أكبر على إدارة اقتصادها بشروطها، بعيداّ من إملاءات خارجية قاسية”… مما قد يعني الخروج من منطق القروض المشروطة إلى منطق الشراكات المستدامة والاستثمارات الإنتاجية.
الواضح حتى اللحظة أن المقاربة الأمريكية الجديدة لا تفصل بين البعدين الأمني والاقتصادي، وفي هذا الإطار، يتّخذ الخطاب الأمريكي منحىً تصاعديًّا يشدّد على أنّ لا إعمار في لبنان ولا مساعدات إلاّ بنزع السلاح غير الشرعي والسير في خطى التطبيع مع إسرائيل، حتّى أنّ اورتاغوس دعت المسؤولين اللبنانيين في تصريح صحافي إلى محطة لبنانية في 16 مايو إلى أن “يتعلّموا” من رئيس السلطة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، في إشارة إلى اللقاء التاريخي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والشرع في الرياض في الرابع عشر من مايو ونتائجه المؤسِّسة لسوريا جديدة.
في الخلاصة، كما في سوريا كذلك في لبنان والمنطقة، الشرق الأوسط دخل فعلاً العصر الأمريكي. فهل يلتحق لبنان بهذا العصر من بوّابة الدبلوماسية أم القوة العسكرية؟