استحوذ اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس السلطة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع في الرياض في 14 مايو الماضي على اهتمام العواصم العربية والعالمية، باعتباره نقطة تحوّل بارزة في التعاطي الأميركي مع الملف السوري، في لحظة حسّاسة تلت إعلان رفع العقوبات عن دمشق بعد أشهر من الخلافات الكبيرة داخل الإدارة الأمريكية حول كيفية التعامل مع الإدارة السورية الجديدة.
فانطلاقاً من الرعاية الذي يحظى بها من قبل العديد من الجهات الإقليمية الفاعلة، وعلى رأسها تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، نجح الرئيس السوري الانتقالي في الحصول على لقاء مع الرئيس الأمريكي ، خلال جولته الخليجية، بعد أن كان قد مهّد الطريق إلى ذلك عبر مجموعة من المواقف التي تهم الجانب الأمريكي، أبرزها على مستوى العلاقة مع إسرائيل في المستقبل، بالإضافة إلى فتح أبواب الاستثمارات الأمريكية وإزالة العوائق التي تواجه الشركات الخليجية وغيرها بسبب العقوبات.
بناء على ذلك، يمكن فهم المواقف التي صدرت عن البيت الأبيض، بعد اللقاء الذي تم بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان شخصياً والرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن بعد، حيث تم الإعلان عن دعوة ترامب للشرع إلى الانضمام للاتفاقيات الإبراهيميّة، بالإضافة إلى طرد الفصائل الفلسطينية التي تصنّفها واشنطن إرهابيّة، في مقابل دعوة الرئيس السوري الإنتقالي الشركات الأمريكية للاستثمار في قطاع النفط والغاز.
ولكن، بالرغم من الأهمية البالغة لقرار الرئيس الأمريكي رفع العقوبات عن سوريا، إلاّ أنّ ذلك لا يعني بالضرورة رفعها جميعها، فالعقوبات الأمريكية تنقسم إلى نوعين: عقوبات تنفيذية يستطيع الرئيس إلغاءها بقرار منه، وعقوبات تشريعية يفرضها الكونغرس وله صلاحيات إلغائها، وأبرزها قانون قيصر. والكونغرس منقسم حول هذا القانون مع استمرار الانتهاكات ضدّ الإنسانية في سوريا.
وفي المقابل، فإن العقوبات الأوروبية المفروضة على النظام السوري، وشخصيات محددة، لا تزال قائمة، وتشمل أيضا شخصيات جديدة ظهرت في السلطة بعد سقوط نظام بشار الأسد.
الغطاء الإقليمي
الشرع ذو التاريخ الحافل بالانتماء إلى جماعات مصنفة دوليا بمنظمات إرهابية، ما كان ليحظى بمثل هذه الفرصة، من دون الغطاء الإقليمي من دول معروفة بعلاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة، بخاصة أن إسرائيل، بعد سلسلة التنازلات التي كان قد بادر إليها، لم تكن تمانع حصول هذا اللقاء.
إن حضور الأمير محمد بن سلمان والرئيس أردوغان اللقاء بين ترامب والشرع، دليل على أن الرئيس الأمريكي يتعامل مع الملف السوري من منطلق تحميل الجانبين، السعودي والتركي، مسؤولية أي تطور سلبي على هذه الساحة، على قاعدة أنهما “الكفلاء”، لتنفيذ الشرع ما هو مطلوب منه في المرحلة المقبلة، بعد أن كانت واشنطن تتعامل مع السلطة الجديدة على قاعدة أنها محل اختبار دائم، وبالتالي تقييم الموقف منها بناء على الخطوات التي ستقوم بها.
في جميع التعليقات التي كانت قد سبقت هذا اللقاء على الملف السوري، كان الرئيس الأمريكي يؤكد أن أردوغان هو المسؤول عن التطور الذي حصل في سوريا، في حين أن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يشيرون دائماً إلى أنهم هم من أسقط الرئيس السابق بشار الأسد، بينما ترامب، عند توتر العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، كان قد تدخل شخصياً للحد من الخطوات التي يقوم بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، عبر التشديد، خلال اللقاء معه في البيت الأبيض، على أن أردوغان هو الحليف.
إن هذه التصريحات تثبت أن العلاقات التركية – السورية اتخذت بعدًا استراتيجيًّا واضحًا تمّ في إطاره الاتفاق على مجمل الملفات التي كانت عالقة بينهما، وبينها الملف الأمني وقوات “قسد”، الملف الاقتصادي القائم على استثمارات تركية في إعادة إعمار سوريا، وملف النازحين السوريين.
بعيداً عن هذا المشهد، الذي قد يكون غريباً بالنسبة إلى الكثيرين، لناحية تنقل الشرع من الانتماء إلى “داعش” و”القاعدة”، وصولاً إلى مصافحة رئيس الولايات المتحدة في المرحلة الحالية، بعد أن كان يتهم الحكام العرب بدفع “الجزية” إلى واشنطن، يبقى الأساس هو التحديات التي سيفرضها هذا التحول على المستوى السوري الداخلي، خصوصاً أن قرار رفع العقوبات سيزيد من التحديات التي على السلطة الجديدة مواجهتها لا العكس.
“سلام إقتصادي” و5 ملفّات
التحدي الكبير لحصد نتائج هذا اللقاء من قبل الجانب السوري يكمن في قدرة الشرع على تنفيذ خارطة الطريق الأمريكية لخروج سوريا من عزلتها وانخراطها في المجتمع الدولي، والمتمثلة في ما نشرته كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض، في بيان على منصة “أكس” وحدّدت فيه خمس نقاط أساسية حث الرئيس الأمريكي، الرئيس السوري على تنفيذها، وهي:
الملف الأول: الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام والاعتراف بإسرائيل. وهو ما سيكون خطوة تقلب الموازين في الشرق الأوسط، إذ تصبح سوريا أول دولة من “دول الصمود والتصدي” التقليدية التي تطبّع علاقاتها مع إسرائيل، وتوقع اتفاقية سلام. ومن غير المتوقع أن يخطو الشرع بمبادرة تطبيع مباشرة على غرار مبادرة الرئيس المصري أنور السادات عام 1977 حين زار إسرائيل شخصيا لتدشين مرحلة السلام، على أن يكون هذا التطبيع على مراحل تبدأ بلقاءات مباشرة، سرية أو علنية، ويتبعها توقيع مذكرات تفاهم قبل الوصول في مراحل لاحقة نحو الاعتراف المتبادل.
الملف الثاني: طرد الإرهابيين الأجانب الذين قاتلوا إلى جانب الشرع، والمتهمين بارتكاب مجازر وجرائم حرب في سوريا. وهؤلاء المقاتلون، الذين انخرطوا في صفوف المعارضة منذ عام 2011، يحملون تجارب قتالية متنوعة وارتباطات أيديولوجية متعددة، معظمها تصنفها الولايات المتحدة إرهابية، وقد جرى دمج كثيرين منهم في الجيش السوري. هذا الملف يعتبر معقدا بالنسبة إلى الرئيس السوري، ففي تصريحات سابقة، أكد الشرع، أن المقاتلين الأجانب الذين ساهموا في الإطاحة بنظام الأسد “يستحقون المكافأة”، وها هو اليوم يواجه تحدّي ترحيلهم.
الملف الثالث الساخن، هو ترحيل المسلحين الفلسطينيين الذين تصنفهم الولايات المتحدة على لوائح الإرهاب، خصوصاً حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. ولطالما استضافت سوريا، في عهد الرئيسين حافظ وبشار الأسد فصائل فلسطينية مسلحة ذات صلات عميقة بإيران. وبالفعل بدأ الشرع بتطبيق خطوات في هذا المجال منذ نهاية أبريل الماضي حينما قامت القوات الأمنية السورية باعتقال قياديين بارزين من حركة “الجهاد الإسلامي”.
الملفان الرابع والخامس مرتبطان بتنظيم داعش. المطلوب من الشرع التعاون مع الولايات المتحدة لمنع عودة نشاط داعش في سوريا وبإدارة معتقلاته في الشمال. هذه السجون تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يطلب ترامب بوضوح من الشرع تولي هذا الملف وتحمل مسؤوليته من الدولة السورية المركزية، وهو ما قد ينعكس أيضاً على العلاقة المتوترة أصلاً بين الشرع و”قسد”.
الملفت في الشروط الأمريكية التي ذكرتها السيدة ليفيت أنها لم تتضمن ضمانات من السلطات السورية بشأن احترام حقوق الإنسان الأساسية للشعب السوري، أو تنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة أو حتى العمل بإعلان جنيف للعام 2012 بشأن العملية الدستورية والإصلاح السياسي في البلاد، علما بأن الولايات المتحدة كانت دوما ضمن مجموعة العمل المعنية بسوريا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
إن التطور الجديد في العلاقات الأمريكية السورية يعيد تشكيل البيئة السياسية في المنطقة، ولكن على قاعدة “السلام الاقتصادي”، فترامب يحاول استعادة موقعه كلاعب سلام عالمي كما سبق أن طرحت إدارته السابقة في خطة “صفقة القرن”، وقطع الطريق على بكين التي تسعى بإلحاح لتقديم التمويل للحكومة السورية.
