في الأروقة الهادئة لمقرّات الأمم المتحدة في جنيف، لم تعد الثقة على حالها، ولا الدبلوماسية على إيقاعها السابق. تراجعت وتيرة التوافق، وازدادت الضغوط المالية والسياسية على المؤسسات الأممية، وعلى رأسها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، التي أصبحت في مرمى النيران بعد انسحاب بعض الداعمين الأساسيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة في العهد الثاني للرئيس دونالد ترامب.
ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، خاض ترامب مواجهة مباشرة مع المنظومة الأممية، واعتبر أن الكثير من منظماتها “منحازة وغير فعالة”، لتبدأ سلسلة انسحابات صادمة شملت الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان وتجميد التعاون مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان وقف التمويل عن عدد من برامج الأمم المتحدة.
وذكر الرئيس ترامب في بيانه الصادر في الرابع من فبراير الماضي بأن الولايات المتحدة سعت إلى تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لمنع نشوب صراعات عالمية في المستقبل، ولتعزيز السلام والأمن الدوليين. لكن بعض وكالات الأمم المتحدة وهيئاتها انحرفت عن هذه المهمة، وبدلاً من ذلك، تعمل حاليا بما يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وتهاجم حلفاءها وتنشر معاداة السامية.
إن هذه الإجراءات لم تكن مجرد مواقف رمزية، بل حملت تبعات حقيقية ومباشرة على مصير الآلاف من الموظفين الدوليين، بخاصة العاملين في أقسام حقوق الإنسان والمراقبة الميدانية حول العالم، فالمفوضية السامية لحقوق الإنسان واحدة من أكثر الهيئات تعرّضًا للضغوط، بسبب مواقفها المنتقدة لانتهاكات ترتكبها دول نافذة. وقد أدى تراجع الدعم الأمريكي إلى تقليص البعثات الميدانية في عدد من الدول التي تشهد نزاعات أو انتهاكات مستمرة، وتجميد عقود عمل بعض الموظفين المؤقتين والمستشارين القانونيين، وإعادة هيكلة أقسام داخلية وخفض في بعض الرواتب التشغيلية.
وسط هذه الرياح المعاكسة، تُطرح أسئلة مصيرية حول مستقبل جنيف كمركز دولي للعمل الإنساني. فهل يمكن أن تستعيد المفوضية السامية لحقوق الإنسان قوّتها واستقلاليتها؟ وهل تستجيب الدول الأعضاء بتمويل مستقر يحمي المؤسسات من تقلبات السياسة؟
هل تصمد جنيف؟
من بين أكثر المتأثرين من سياسات ترامب الانسحابية، تأتي المفوضية السامية لحقوق الإنسان، التي وجدت نفسها فجأة في مواجهة أزمة مالية غير مسبوقة. فمع خفض التمويل الأمريكي – الذي شكّل تاريخيًا أحد أكبر المساهمات الطوعية – أصبحت قدرة المفوضية على الاحتفاظ بكوادرها محلّ تهديد. وتشير تقديرات داخلية إلى أن نحو 500 إلى 600 وظيفة مؤقتة وميدانية باتت مهددة، حيث تعتمد المفوضية بشكل كبير على التمويل الطوعي لتغطية رواتب المحققين والخبراء القانونيين والمراقبين الميدانيين.
سويسرا قلقة وجنيف تتحرك: الخطر لم يعد دوليًا فقط بل اقتصاديًا محليًا
لم تقف السلطات السويسرية مكتوفة الأيدي أمام أزمة التراجع في التمويل الدولي، وانسحاب الولايات المتحدة من بعض مؤسسات الأمم المتحدة، بل عبّرت عن قلقها العلني من تأثير ذلك على مستقبل جنيف كمركز عالمي للحوكمة متعددة الأطراف.
وفي بيان مشترك، أكدت وزارة الخارجية السويسرية وسلطات كانتون جنيف أن “الدور الدولي لجنيف ليس مجرد رمز سياسي، بل ركيزة اقتصادية واجتماعية تمسّ حياة آلاف السكان”. وتُعتبر المنظمات الدولية في جنيف محرّكًا اقتصاديًا مهمًا، حيث تُساهم بما يُقدّر بـ 1,3 مليار فرنك سويسري (1,5 مليار دولار أمريكي) سنويًا في الاقتصاد المحلي، وتوفّر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لحوالي 30 ألف شخص، منهم موظفون أمميون، عائلاتهم، وشركات خدمات محلية تعتمد على هذا الحضور.
وفي ظل أزمة التمويل والتهديدات المتزايدة لجأت الحكومة الفدرالية السويسرية إلى عدة إجراءات لمحاولة الحفاظ على جنيف كمركز دولي، من بينها إطلاق “خطة دعم جنيف الدولية، التي تشمل إعفاءات ضريبية، تحسين البنية التحتية، ودعمًا مباشرًا لبعض الفعاليات والمنظمات، وتحرّكاً دبلوماسيًا سويسريًا لدى الدول المانحة الكبرى لحثّها على مواصلة تمويل المنظمات الأممية، أو تعويض النقص الناجم عن الانسحاب الأمريكي.
وسارعت السلطات السويسرية إلى اتخاذ خطوات حاسمة للحفاظ على جنيف كمركز عالمي للعمل متعدد الأطراف، من خلال دعم مالي مباشر بقيمة 400 مليون فرنك سويسري، كما خصص كانتون جنيف ميزانية إضافية بقيمة 120 مليون فرنك سويسري لدعم الخدمات العامة المرتبطة بوجود المنظمات الدولية، مثل الأمن، والنقل، والمدارس الدولية.
وقال إينياتسيو كاسيس، وزير الخارجية السويسري، في مؤتمر صحفي مؤخّرا بأن “جنيف ليست فقط رمزية، بل هي بنية حية تمثل التعددية الدولية. من واجبنا كدولة مضيفة أن نضمن بقاءها قوية وفاعلة.”
ورغم الدعم المالي والتطمينات السياسية، لا تزال المخاوف قائمة من أن تغيّر موازين القوى الدولية قد يدفع منظمات أممية إلى نقل مقارّها أو تقليص نشاطها في المدينة، بخاصة إذا تواصل الضغط من بعض الحكومات المتشككة في العمل متعدد الأطراف.