ترامب في الرياض 2025: السعودية ترسم ملامح نظام إقليمي جديد عبر بوابة “الصفقات الاستراتيجية”

في زيارة تحمل دلالات استراتيجية أكثر من كونها بروتوكولية، استقبلت المملكة العربية السعودية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منتصف مايو 2025، في واحدة من أكثر الزيارات حساسية وتأثيرًا على خريطة الشرق الأوسط في العقد الأخير، وكانت هذه زيارة استثنائية بكل معنى الكلمة، إذ أنّها أعادت صياغة العلاقة السعودية-الأمريكية، ورسّخت تحوّلًا متسارعًا في مقاربة واشنطن للمنطقة.

من “قيم الشراكة” إلى “اقتصاد الصفقات

بخلاف الإدارات السابقة التي ربطت الشراكة مع دول الخليج العربي بسرديات الديمقراطية الغربية والمعايير المثلى لحقوق الإنسان، جاءت زيارة ترامب لتؤكد تبنّي مقاربة عملية صريحة، قائمة على “المصلحة أوّلًا”.

النتيجة كانت الإعلان عن حزمة استثمارات سعودية في الاقتصاد الأمريكي تجاوزت قيمتها 600 مليار دولار، تشمل قطاعات الطاقة، الدفاع، الذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية التكنولوجية.

كما تم توقيع اتفاقيات عسكرية غير مسبوقة بقيمة 142 مليار دولار، تضاف إلى شراكات استراتيجية مع عمالقة التكنولوجيا مثل Nvidia وAmazon  وGoogle، في إطار سعي الرياض إلى تحويل مصادر الدخل الرئيسية من قطاع إنتاج النفط نحو آفاق الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي.

جاءت زيارة ترامب متزامنة مع قمة خليجية استثنائية جمعت قادة دول مجلس التعاون، حيث ظهرت المملكة العربية السعودية في موقع القيادة، مكرّسة دورها كلاعب إقليمي محوري، إذ منحت الزيارة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان دفعًا سياسيًا كبيرًا، خصوصًا في ظل تعمّد الإدارة الأمريكية التعامل المباشر معه باعتباره صاحب القرار الفعلي في المملكة.

الخطاب السياسي المصاحب للزيارة عكس تحوّلًا في الرؤية الأمريكية، حيث أكد ترامب أن واشنطن “لن تُلقي المحاضرات” على شركائها في الشرق الأوسط، ما فُسّر على نطاق واسع بأنه إنهاء لمرحلة الضغط  السياسي لصالح شراكة تقوم على تبادل المصالح المجردة.

ملفات إقليمية: السعودية كوسيط إقليمي محوري؟

تؤكد زيارة ترامب أن الرياض لم تعد تكتفي بدور المراقب في نزاعات المنطقة، بل تحوّلت إلى عاصمة للحوار، تستضيف الخصوم وتجمع الفرقاء على طاولة التفاهم، فلا يمكن اختزال لقاء ترامب وقادة دول مجلس التعاون الخليجي في بعده الرمزي فقط، إذ إنه يمنح المملكة العربية السعودية موقعًا متقدّمًا في صياغة التسويات الكبرى. كما أن هذا الحدث يبعث برسائل متعددة الاتجاهات: أولها إلى المجتمع الدولي، بأن الرياض باتت مستعدة لقيادة مرحلة من الواقعية السياسية، وثانيها إلى القوى الإقليمية، بأن من لا يواكب هذا التحوّل السعودي سيجد نفسه خارج المعادلة.

تضمنت زيارة ترامب تحولات بارزة في الملفات الإقليمية:

  • سوريا: أعلن ترامب رفع العقوبات عن سوريا، في خطوة مفاجئة، تفتح الباب أمام عودة دمشق إلى المشهد الإقليمي بوساطة سعودية- تركية. هذا التطور الجديد في العلاقات الأمريكية السورية يعيد تشكيل البيئة السياسية في المنطقة، ولكن على قاعدة “السلام الاقتصادي”، فترامب يحاول استعادة موقعه كلاعب سلام عالمي، كما أنه يسعى لقطع الطريق على الصين التي تسعى بإلحاح لتقديم التمويل للحكومة السورية.
  • إيران: دعا ترامب طهران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي، في تحوّل عن سياسة “الضغط الأقصى” التي تبناها في ولايته الأولى، واضعًا الرياض في موقع الحَكم بين واشنطن وطهران. في أكثر من تصريح، أتت الردود الإيرانية متّسمة بالتحدّي، في حين رأت مصادر متابعة أنّ لقاء ترامب مع الرئيس السوري في الرياض كان رسالة غير مباشرة إلى طهران، مفادها أنه في حال قبول مطالب واشنطن، سيكون من الممكن لإيران الخروج من العزلة. ومع ذلك، فإن مثل هذا الاتفاق بالنسبة للنظام الإيراني سيعني نهاية ثقافته السياسية القائمة على معاداة الولايات المتحدة.
  • إسرائيل: المثير في الزيارة هو غياب أي توقف للرئيس الأمريكي في القدس أو تصريحات بشأن “اتفاقات أبراهام”، مما يوحي بتراجع الأولوية الإسرائيلية مؤقتًا لصالح ملفات الخليج وسوريا وإيران، مع تواتر التقارير عن توسّع الفجوة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وترامب في عدد من قضايا الشرق الأوسط بما في ذلك إنهاء الحرب في غزة واستعادة الأسرى، ودعم الاستقرار في سوريا.

أمّا روسيا، فتبدو في حالة ترقّب، عين على إقرار الغرب بدورها كراعٍ للحلّ في الملف السوري، وأخرى على ما سيؤول إليه الموقف الأمريكي وتحديداً موقف ترامب من المفاوضات حول ملف الحرب مع أوكرانيا. لذلك جاء تصريح السكرتير الصحفي للرئيس فلاديمير بوتين عاكسًا لهذا الترقّب عندما قال عن لقاء الرياض إنه “أمر مفهوم” وأنّ روسيا “تفعل الشيء عينه.”

يبقى أنّ زيارة الرئيس ترامب ترسم تحدّيات كبرى تتجاوز حدود الشرق الأوسط إلى كبرى عواصم العالم. فالعملاق الصيني المستيقظ بكامل نشاطه منذ عقود بات أكثر يقظة وخطرًا، ولكنّ القمقم الذي تحاول إدارة ترامب إعادته إليه لا يمنعها من التركيز على الشرق الأوسط. كما أنّ الملف النووي الإيراني وحرب أوكرانيا يسيران جنبًا إلى جنب مع الاتفاقات الإبراهيمية.

السعودية بين الصفقة والدور

زيارة ترامب أكدت أن المملكة العربية السعودية تسير بخطى ثابتة نحو تعزيز مكانتها كدولة محورية في النظام الإقليمي الجديد، مستفيدة من تقاطع المصالح مع واشنطن، ومن تحولات ميزان القوى الدولي. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين المكاسب الاقتصادية والدور السياسي من جهة، ومتطلبات الاستقرار الإقليمي من جهة أخرى.

Scroll to Top