منذ أن قرّر المجلس الفدرالي المضيّ قدمًا في صفقة شراء مقاتلاتF-35 الأمريكية، لم يهدأ الجدل في الساحة السويسرية. فرغم التحذيرات من التكاليف الباهظة والانتقادات بشأن مدى ملاءمة هذه الطائرة لمهامّ سويسرا الدفاعية، تصرّ الحكومة على أنّ الخيار ضروري لتأمين المستقبل. لكنّ مؤرّخًا عسكريًّا وخبيرًا في الاستراتيجيا، هو ماورو مانتوفاني، قلب النقاش رأسًا على عقب باقتراح غير مسبوق: إسناد حماية المجال الجوّي السويسري إلى فرنسا.
وجاء خيار الـ F-35 نتيجة قرار اتّخذه المجلس الفدرالي السويسري في يونيو 2021 ضمن برنامج التحديث الدفاعي المعروف بـ Air2030، وذلك بعد عملية تقييم شملت أربع طائرات مرشّحة هي: الـ F-35 الأمريكية، الـ Rafale الفرنسية، الـ Eurofighter الأوروبية، والـ Super Hornet الأمريكية. وقد أوصت وزارة الدفاع (DDPS) باختيار الـ F-35 بعد أن حصلت على أعلى تقييم من حيث الأداء والتكلفة على مدى دورة الحياة. لكنّ هذا القرار لم يحظَ بإجماع سياسي: فقد دعمه حزب الشعب وأحزاب اليمين، فيما عارضته الأحزاب اليسارية والخضراء بشدّة معتبرةً أنّه خيار باهظ الثمن وغير متناسب مع احتياجات الشرطة الجوّيّة. ورغم محاولات معارضي الصفقة الدفع نحو استفتاء شعبي، سارعت الحكومة إلى توقيع العقود رسميًّا عام 2022 لضمان إنجاز الصفقة مع شركة لوكهيد مارتن.
مانتوفاني: الـ F-35 لا تصلح لسويسرا
في مقابلة مع صحيفة Tribune de Genève، اعتبر مانتوفاني أنّ المقاتلة الأمريكية، رغم تطوّرها، غير ملائمة للمهامّ الأساسية لسويسرا، المتمثّلة في الشرطة الجوّيّة أكثر من العمليات الهجومية. وذكر بأن “الـ F-35 لا يمكنها وحدها حماية سويسرا، مهما بلغ عدد الطائرات. فالتهديد الحقيقي يتمثّل في الصواريخ الباليستية وصواريخ الكروز، ولا يمكن مواجهته إلّا عبر منظومات دفاع جوّي أرض-جوّ.”
وأضاف أنّ استمرار سويسرا في الاعتقاد بأنها قادرة على الدفاع عن نفسها منفردةً ما هو سوى “وهم”، مشيرًا إلى أنّ السويد وفنلندا تخلّتا عن هذا الوهم بانضمامهما إلى الناتو. من هنا يطرح حلاًّ مغايرًا: الاعتماد على فرنسا، التي ترتبط مع برن باتفاق تعاون في الشرطة الجوّيّة منذ عام 2004، وتملك من القدرات العسكرية والردعية ما يجعلها قادرة على التدخّل فوق الأجواء السويسرية خلال دقائق معدودة.
ويكتسب مقترح مانتوفاني بُعدًا إضافيًّا إذا ما وضع في سياق الواقع العملي لقدرات سلاح الجو السويسري. فحتى نهاية عام 2020، لم تكن القوات الجوّيّة قادرة على مراقبة الأجواء الوطنية إلّا خلال “ساعات العمل الرسمية” (من الثامنة صباحًا حتى الخامسة مساءً، مع استراحة غداء!). ومنذ إطلاق برنامج PA24 عام 2015 جرى توسيع نطاق الجاهزيّة تدريجيًّا، وصولًا إلى تحقيق القدرة الكاملة على الاستجابة على مدار الساعة في ديسمبر 2020، حيث بات بإمكان طائرتين من طراز F/A-18 الإقلاع خلال 15 دقيقة فقط. لكن، وحتى ذلك التاريخ، كانت تغطية الأجواء السويسرية خارج ساعات العمل تعتمد فعليًّا على تدخّل الحلفاء الأوروبيين.
ردود الفعل: بين الدفاع عن السيادة ومطالب الواقعية
هذا المقترح أثار جدلًا داخليًّا حادًّا. فالأحزاب اليمينية، وفي مقدّمتها حزب الشعب رأت فيه مساسًا خطيرًا بالسيادة والحياد السويسري، مؤكّدة أن التخلّي عن سلاح الجو الوطني هو تخلٍّ عن ركيزة أساسية من ركائز الهوية السياسية للبلاد. في المقابل، أبدت أحزاب الوسط واليسار براغماتية أكبر، فاعترفت بأنّ تكاليف الـ F-35 هائلة وبأنّ التعاون الإقليمي يجب أن يبقى خيارًا مطروحًا، وإن لم تصل بعد إلى حدّ تبنّي الفكرة علنًا. أمّا المجلس الفدرالي، فيظلّ متمسّكًا بالصفقة باعتبارها الضمان الوحيد للاستقلالية الدفاعية وتفادي صورة الدولة “المستسلمة” أمنيًّا.
الرأي العام: انقسام بين الفخر والبراغماتية
داخل الشارع السويسري، تعكس المواقف الشعبية هذا الانقسام السياسي. فشريحة واسعة تعتبر أنّ سلاح الجوّ الوطني “خطّ أحمر” لا يمكن المساس به لأنّه رمز للحياد والسيادة. لكن في المقابل، برزت شريحة أصغر نسبيًّا، لكنها متنامية، ترى أن التعاون مع فرنسا أو حتى مع الناتو هو خيار عقلاني، بخاصّة بعد حادثة 2014 حين عجزت الطائرات السويسرية عن التدخّل في حادث اختطاف طائرة، واضطرّت فرنسا وإيطاليا إلى تولّي المهمّة. بالنسبة لهؤلاء، الدفاع عن الأجواء لا يعني بالضرورة الاحتفاظ بسلاح جوّ كامل، بل بتأمين الحماية الفعّالة بأقلّ تكلفة.
نقاش يتجاوز الطائرات سواءً استمرّت سويسرا في صفقة الـ F-35 أو أخذت في الاعتبار بدائل مثل التعاون مع فرنسا، فإنّ النقاش لم يعد يتعلّق بمقاتلة بعينها، بل بمسألة استراتيجيّة أعمق: هل تستطيع سويسرا أن تحافظ على استقلالها العسكري كرمز للحياد، مهما كان الثمن؟ أم أنّ الواقع الأمني الجديد يفرض الانتقال من وهم الاكتفاء الذاتي إلى منطق الأمن الجماعي؟