منذ سقوط نظام بشار الأسد ووصول أحمد الشرع إلى رئاسة السلطة الإنتقالية، تعيش سوريا أزمات متتالية واهتزازات أمنية متسارعة تسفر عن حمّامات دم متنقّلة، آخر فصولها الأحداث الطائفية الدامية في السويداء ذات الغالبية الدرزيّة، الواقعة في الجنوب الشرقي من العاصمة دمشق، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 300 قتيل خلال الأيام الممتدة من 13 إلى 17 يوليو الجاري. هذه الأحداث التي أسفرت عن تدخّل إسرائيلي عسكري “دفاعًا عن الدروز” بغارات شملت استهداف مقرات أمنية وإدارية في أربع محافظات سورية، بينها مقر هيئة الأركان ومحيط القصر الرئاسي في دمشق انتهت بإعلان اتّفاق لوقف النار بين إسرائيل وسوريا برعاية أمريكية. فما أسباب هذه الأحداث وتداعياتها على الداخل السوري ودول الجوار؟ وهل تشكّل انحرافًا لمخطط “العصر الأمريكي” في سوريا والمنطقة نحو التقسيم أو الفدرلة أم أنّها مجرّد فصل مرسوم من فصوله؟
إتّفاق هشّ
في قراءة لمضمون اتفاق إطلاق النار، يبدو أنّه غير قابل للتطبيق، ليس بكامل بنوده على الأقلّ، بخاصّة في ما يتعلّق ببندي دمج الدروز في المستقبل السياسي للمرحلة المقبلة والسماح لرافضي الإتفاق بالخروج من البلاد عبر ممر ّآمن. فرئيس السلطة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع لا يبدو مستعدًّا حتى الآن لتحقيق الوحدة السورية من خلال إشراك جميع الفئات في سلطات الدولة. والممرّ الآمن لرافضي الإتفاق وغالبيتهم من الدروز لا يتجاوز كونه تهجيرًا “طوعيًّا” للأقلّيّة الدرزيّة يُضاف إلى التهجير القسري للأقليّات العلويّة والمسيحيّة من خلال مجازر الساحل التي راح ضحيّتها أكثر من 1500 قتيل.
أمّا الطرف الإسرائيلي، فقد عبّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن استعداد بلاده الدائم للتدخّل من أجل حماية الدروز وتحويل منطقة جنوب سوريا الممتدة من الجولان إلى السويداء مرورًا بدرعا وريف دمشق إلى منطقة منزوعة السلاح، مستفيدة من التوتّرات والانقسامات الطائفية التي تشهدها سوريا، ومن عدم قيام الإدارة السورية الجديدة بقيادة حوار وطني وتبنّي عقلية دولة تمثّل جميع الفئات الطائفية والإثنية.
أزمة سياسيّة بوجه طائفي وأمني
تعكس الصدامات الطائفية، التي استهدفت أخيرًا محافظة السويداء، أزمة سياسية عميقة، تتجلى في حالة من العنف الطائفي باتت تتنقّل، منذ سقوط النظام، من منطقةٍ إلى أخرى، وذلك في غياب تجريم رسمي جادّ للتحريض والتعبئة الطائفيَّة وعدم تبنّي خطاب رسمي يدينهما بصرامة وحزم. وأصبحت الصدامات على خلفية طائفية تشكل تهديدًا فعليًا لسوريا، وتتزايد خطورتها، نتيجة لانتشار السلاح بيد الأفراد والجماعات المحلية، وامتناع السلطة عن بناء جهاز أمن داخلي وجيش بعقيدة دولة، لا عقيدة جماعة تسيطر على الدولة، بالإضافة إلى عدم قيام الإدارة السورية بضبط سلوكيات الفصائل المسلحة التي تتصرّف باسمها أو ترتبط بها.
تفسّر هذه العوامل حالة انعدام الثقة بين أجهزة الدولة وأجزاء من الشعب السوري التي لا تعدّ الأجهزة الأمنية السورية ممثّلة لدولة، بل ممثّلةً، شكلًا وخطابًا وممارسةً، لجماعة عقائدية لديها مواقف مسبقة إزاء جماعات أخرى على أساس هويّتها. بالإضافة إلى ذلك، يشعر جزء مهمّ من السوريين بحالة من التهميش والإقصاء نتيجة الاستئثار بالسلطة من جماعةٍ واحدة، وانعكس ذلك في جميع الخطوات التي تم اتّخاذها، بما في ذلك مؤتمر الحوار الوطني الشكلي الذي أُعدّ على عجل، إلى الإعلان الدستوري الذي حظر الحياة الحزبية وركّز كل السلطات بيد الرئيس، وتشكيل حكومة تبدو حكومة تكنوقراط ولكنّها حكومة هيئة تحرير الشام بمشاركة غير حزبيين، حيث غاب التمثيل السياسي المتوازن لمختلف التيّارات والفئات في ظلّ عدم القدرة على تنظيم انتخابات، وصولًا إلى التباطؤ في إطلاق مسار العدالة الانتقالية والإعلان عن نتائج التحقيق في أحداث الساحل الطائفية…
“الرعاية” السياسيّة والعسكريّة
الأمريكيون باتوا اليوم ذي النفوذ السياسي الأكبر في سوريا الجديدة، وهاهم يرعون اتفاقاً مباشرا بين إسرائيل وسوريا تم التوصل إليه في باريس يوم الجمعة 25 يوليو حيث عقد وزير الخارجية في السلطة الانتقالية السورية أسعد الشيباني اجتماعا دام لأكثر من أربع ساعات مع وزير التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي رون ديرمر هدفه تخفيف التوتر بين الطرفين لاسيما في الجنوب السوري.
أما رعاة السلطة الجديدة في سوريا وعلى رأسهم تركيا لم يرعوا ضرورة قيام نظام موحّد في سوريا يحترم التعدّديّة ويشرك جميع الأطراف، وبالتالي فقد أصبح هذا الأمر أملًا بعيدًا لا بل مستحيلًا، على الأقلّ في المدى المنظور، لأنّ المشهد الجيوسياسي في سوريا لم يتغيّر، والسلطة الجديدة لم تحقّق ما هو مرجوّ مع استمرار انتهاكات حقوق الإنسان وإن اختلفت الأدوار.
بالإضافة إلى التأثير السياسي، فالنفوذ العسكري التركي والدولي في سوريا يعكس استعداد هذه الدول للدفاع عن مصالحها وفرض شروط صعبة على السلطة الجديدة. فبالإضافة إلى الوجود العسكري الإسرائيلي القوي في سوريا، فإنّها تحوي على أرضها أيضًا عددًا كبيرًا من القوات الأجنبيّة، من الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران، بالإضافة إلى وكلاء إيرانيين، وتنتشر القواعد العسكريّة في مناطق عدّة.
وفي ظلّ الانكفاء الأوروبي والروسي والاهتمام العربي الخجول والمشروع الإيراني المتراجع النفوذ، يشهد التواجد العسكري الأجنبي في سوريا في منتصف عام 2025 تحوّلات لافتة تعكس تغيّراً في موازين القوى الإقليمية والدولية على الأرض. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 900 جندي متركزين أساسًا في قاعدة التنف ومواقع أخرى في شمال شرق البلاد، دعمًا لقوات سوريا الديمقراطية، رغم سحبها من عدد من القواعد في الأشهر الماضية. في المقابل، تراجعت موسكو عن بعض مواقعها العسكرية بعد سقوط النظام السوري أواخر عام 2024، لكنها ما تزال تحتفظ بقاعدتي حميميم وطرطوس، إلى جانب نحو 20 قاعدة و85 نقطة انتشار موزعة في مناطق عدة.
أما إيران، فقد بدأت، تحت وطأة الضغوط الإسرائيلية والأوضاع المتدهورة في الداخل السوري، بسحب تدريجي لقواتها وميليشياتها من عشرات المواقع التي كانت تتمركز فيها سابقًا، ومنها قواعد تابعة لحزب الله اللبناني. وعلى الجانب التركي، ما تزال أنقرة تحافظ على تواجد واسع في شمال البلاد عبر أكثر من مئة موقع عسكري، رغم تزايد الدعوات الدولية لتقليص هذا التواجد.
وبالنسبة لإسرائيل، فقد تحوّل تدخلها من مجرد ضربات جوية إلى انتشار ميداني مباشر في جنوب سوريا، حيث أنشأت مواقع مراقبة في محافظتي القنيطرة ودرعا، مبرّرة وجودها بالحاجة إلى احتواء الخطر الإيراني ومنع إعادة تموضع حزب الله قرب حدودها، بينما تتحدث مصادر دبلوماسية غربية عن خطة إسرائيلية تعرف بمشروع “ممر داوود”، تهدف إلى إنشاء طريق بري يربط مناطق الدروز في السويداء بمناطق الأكراد في شمال شرق سوريا الخاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، مستغلة الانقسام الجغرافي والعرقي الناجم عن الأزمة المستمرة.
يعكس هذا المشهد واقع سوريا ما بعد النظام، حيث تتصارع فيه قوى خارجية على النفوذ، في ظل غياب دولة مركزية جامعة لكافة أطياف الشعب السوري وانهيار الترتيبات الأمنية القديمة. وكما يبدو من تسلسل الأحداث وغياب المواقف الدولية الرادعة بشكل جدّي لتكرارها، أنّ مصالح هؤلاء اللاعبين تتحقّق في إطار كيانات سوريّة متناحرة وليس في دولة موحّدة.
فهل سترضخ سوريا- الشرع لهذا الأمر الواقع أم ستنتفض عليه؟ وهل ستتمكّن من اجتراح “معجزة” إنشاء دولة موحّدة تراعي تعدّديّة مجتمعها بعد عقود عديدة من القمع تحت حكم الطرف الواحد؟ أم يكون التقسيم إلى دويلات أو كانتونات تقوم على أسس طائفية أو أثنية هو ما ينتظر سوريا في العصر الأمريكي، تكون فيه الاضطرابات الطائفية هي المدخل إلى التنفيذ؟