معركة خفيّة تهدّد بضرب جوهر الأمم المتحدة والموازنة أهم أسلحتها السياسية

geneva001
معركة خفيّة تهدّد بضرب جوهر الأمم المتحدة والموازنة أهم أسلحتها السياسية

في وقتٍ تواجه فيه الأمم المتحدة أزمة مالية غير مسبوقة، يدور صراع خفيّ داخل أروقة نيويورك، حيث تستخدم بعض القوى الكبرى الموازنة كسلاح سياسي لإضعاف منظومة حقوق الإنسان الدولية، واستهداف جوهرها: الحقوق المدنية والسياسية. ومع تراجع التمويل الأمريكي وازدياد النفوذ البيروقراطي، تتّسع الفجوة بين مبادئ الأمم المتحدة وواقعها، بينما تجد دول في هذا المناخ فرصة لتقليص الضغوط الحقوقية عليها. إنها معركة مالية ظاهرًا، لكنّها معركة على روح النظام الأمميّ نفسه.

تقرير خاص

في تطوّر خطير يعكس التحوّلات داخل المنظومة الأمميّة، كشفت المنظمة الدولية للخدمات الإنسانية     (ISHR)  ، وهي منظّمة غير حكومية تتخذ من جنيف مقر لها، في تقرير جديد بعنوان “معارك الميزانية في الأمم المتحدة: كيف تحاول الدول تقليص تمويل حقوق الإنسان” عن جهود منسّقة لتعطيل تمويل أنشطة الأمم المتحدة في مجال الحقوق المدنية والسياسية، عبر أدوات مالية وبيروقراطية تُستخدم لتقويض المفوضية السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) وآليّات التحقيق الخاصّة.

يستند التقرير إلى وثائق رسمية ومقابلات داخلية تغطّي الفترة بين 2019 و2024، ويبيّن كيف تحوّلت اللجنة الخامسة للجمعية العامة – المسؤولة عن الميزانية – إلى ساحة صراع غير معلنة بين القوى الدولية حول مستقبل منظومة حقوق الإنسان. فبينما تروّج الصين وروسيا لمشاريع “إصلاح وكفاءة مالية”، ترى هذه المنظمة المموّلة بشكل رئيسي من هيئات حكومية غربية أنّ الهدف الفعلي هو إضعاف قدرة الأمم المتحدة على مراقبة الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها.

تجفيف التمويل لاستهداف جوهر الحقوق

يشير التقرير إلى أنّ التخفيضات تستهدف مباشرة البرامج المعنية بـالحقوق المدنية والسياسية المعنية بحرية الرأي والتعبير، الحقّ في التنظيم والمشاركة السياسية، وحماية الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وبهذا تتحوّل الموازنات إلى سلاح سياسي صامت يتيح للدول الحدّ من المساءلة الحقوقية من داخل آليات الأمم المتحدة نفسها، من دون الحاجة إلى المواجهة العلنية داخل مجلس حقوق الإنسان.

نفوذ صيني متنامٍ وهيمنة بيروقراطية

أظهر التقرير أنّ الصين استثمرت بشكل مكثّف في تعزيز حضورها داخل اللجان المالية والفنية للأمم المتحدة، مثل اللجنة الاستشارية للمسائل الإدارية والميزانية (ACABQ) ولجنة البرنامج والتنسيق (CPC)، ممّا مكّنها من التأثير في النقاشات الداخلية حول توزيع الموارد. في المقابل، تلعب روسيا دور “المُفسد العلني” الذي يرفع شعارات السيادة وعدم التسييس، بينما تتحرك بكين بهدوء أكبر خلف الكواليس لتوجيه القرارات بما يخدم رؤيتها.

المواقف الصينية والروسية

ردّت بعثة الصين لدى الأمم المتحدة على التقرير بوصفه “عديم الأساس“، مؤكّدة أنّ تمويل حقوق الإنسان “استمرّ في النمو بفضل الجهود الجماعية للدول الأعضاء”، ومعتبرة أنّ ما ورد يعكس “تسييسًا للنقاش المالي”. أمّا روسيا فلم تصدر أي ردّ علني مباشر، مكتفية بتكرار موقفها المعروف داخل مجلس حقوق الإنسان بأنّ الآليات الدولية “انتقائية” و”مسيّسة.” ويرى مراقبون أنّ الطرفين يفضلان إبقاء النقاش داخل القنوات الإجرائية المغلقة بدل تحويله إلى مواجهة إعلامية مفتوحة.

أزمة تمويل تُضاعف المخاطر

يتزامن هذا المشهد مع أزمة مالية حادة ناجمة عن تأخّر الولايات المتحدة في سداد مساهماتها، ما أضعف قدرة الأمم المتحدة على مقاومة الضغوط السياسية. ونتيجة لذلك، تقلّصت بعثات الرصد والتحقيق، وتراجعت الموارد المتاحة للمفوضية السامية، وهو ما أدّى إلى تآكل فعلي في حماية الحريات الأساسية في مناطق النزاع والقمع، من دون إعلان رسمي عن ذلك.

المستفيدون من إضعاف المنظومة الحقوقية

يُبرز التقرير أنّ هذا الواقع الجديد استفادت منه إسرائيل أيضًا. فمع تراجع تمويل لجان التحقيق الخاصة وتشتّت الجهود داخل اللجنة الخامسة، تراجع الضغط المؤسسي على إسرائيل فيما يخصّ ممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد حاولت إسرائيل، بحسب التقرير، طرح مقترحات لتقليص تمويل بعض التحقيقات التي اعتبرتها “منحازة”، مستفيدة من خطاب “الكفاءة المالية” عينه.

كما أنّ غياب الدور الأمريكي النشط داخل الأمم المتحدة خلق فراغًا سياسيًا قلّل من الاهتمام بملفّات الاحتلال والاستيطان. وهكذا تحوّل الصراع المالي في نيويورك إلى هدوء سياسي نسبي بالنسبة لإسرائيل، إذ لم تعد في صدارة النقاش الحقوقي الدولي كما كانت في السابق.

تشير هذه التطورات إلى أنّ ما يجري ليس مجرد نزاع حول الأرقام، بل هو تحوّل استراتيجي يعيد تعريف طبيعة الأمم المتحدة نفسها التي سعت منذ أنشائها إلى أن تكون منبرًا لحماية كرامة الإنسان، والتي أضحت تعاني من المسار الجديد الذي يشكّل تراجعًا خطيرًا في الحماية الدولية للحقوق المدنية والسياسية، وتحوّلًا في جوهر المنظومة الأممية من الدفاع عن الإنسان إلى إدارة موازنات تُقرّرها القوى المتنافسة.

Scroll to Top