قرار حزب العمال الكردستاني بنزع السلاح: سلام مستدام أم فراغ على الحدود لن يلبث أن يملأه سلاح آخر؟

قرار حزب العمال الكردستاني بنزع السلاح: سلام مستدام أم فراغ على الحدود لن يلبث أن يملأه سلاح آخر؟

مع إعلان حزب العمال الكردستاني قراره التاريخي بنزع السلاح، تدخل تركيا ودول الجوار، ولا سيّما العراق، مرحلة فارقة قد تعيد رسم خريطة العلاقات الإقليمية. فبعيدًا عن ضجيج البنادق، يُطرح التحدّي الأكبر: بناء سلام مستدام داخل تركيا، ومعالجة تداعيات عقود من الصراع على محيطها الإقليمي، بخاصّة في العراق الذي كان مسرحًا رئيسيًّا لتواجد الحزب وأنشطته.

في الداخل التركي، يبقى مستقبل إعادة دمج آلاف المقاتلين السابقين اختبارًا لقدرة الدولة على المصالحة الجدّيّة. لكن إقليميًّا، تكمن إحدى أبرز التداعيات في شمال العراق، حيث تمركزت قواعد الحزب على مدى عقود، ما جعل الأراضي العراقية مرارًا ساحة للصراع التركي – الكردي. بانسحاب المقاتلين من جبال قنديل والمناطق الحدودية، يمكن أن تنخفض التوتّرات العسكرية بين أنقرة وبغداد، ما يفتح الباب أمام حوار سياسي وأمني جديد بين الجانبين. هذه الخطوة قد تتيح للحكومة العراقية استعادة السيطرة الكاملة على مناطق حدودية كانت خارجة عن سيادتها الفعلية، وتساهم في عودة النازحين إلى قراهم، وهو ما يشكّل مكسبًا داخليًّا لبغداد.

من جانبها، تبدو أنقرة أمام فرصة لإعادة تعريف علاقتها مع العراق على أساس المصالح المشتركة بدلًا من النزاعات الحدودية وحملات القصف الجوي المستمرة ضدّ مواقع الحزب. فنجاح تركيا في طيّ صفحة المواجهة مع حزب العمال في العراق قد يمهّد لإطلاق مشاريع تعاون اقتصادي وأمني أوسع، من بينها اتّفاقات لإدارة الموارد المائية والحدود المشتركة، فضلًا عن توسيع الشراكة في ملفّات الطاقة والبنية التحتية.

رقابة أمنية مشدّدة: بين التفاؤل والحذر

في قلب أنقرة، استقبلت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التركية القرار بمزيج من التفاؤل والحذر. فقد وصف مسؤولون في جهاز الاستخبارات الوطنية (MIT) الخطوة بأنها “تحوّل استراتيجي نادر” يتيح لتركيا إعادة ضبط أولويّاتها الأمنية داخل حدودها وخارجها. وأكدّت مصادر حكومية أن العملية ستتمّ تحت “إشراف مؤسّساتي صارم”، مع إعداد لجان مختلطة من الجيش والاستخبارات لمتابعة مراحل نزع السلاح وتوثيقها خلال الأشهر المقبلة.

غير أن الخبراء الأمنيين حذّروا من فراغ محتمل قد يتركه انسحاب مقاتلي الحزب من شمال العراق، ما قد يفتح المجال أمام جماعات مسلّحة أخرى، سواء كردية مثل PJAK على الحدود الإيرانية، أو متطرّفة كتنظيم داعش في مناطق التماس السورية. لذا، ينظر صنّاع القرار الأمني إلى العملية باعتبارها اختبارًا لقدرة الدولة على الجمع بين مقاربة أمنية صارمة وسياسات اندماج مجتمعي تمنع ارتداد المقاتلين السابقين إلى العنف.

لكنّ الطريق ليس معبّدًا بالكامل؛ إذ تواجه هذه الآمال تحدّيات جدّيّة، أبرزها موقف الفصائل المسلّحة الموالية لإيران في العراق، التي قد ترى في أيّ تقارب تركي – عراقي تهديدًا لنفوذها. كما أنّ استمرار التوتّرات في سنجار والمناطق المتنازع عليها قد يعرقل أيّ مسار تصالحي. ولعلّ الأهمّ أنّ بغداد وأنقرة ستحتاجان إلى صياغة تفاهمات أمنية واضحة تمنع عودة الحزب أو أيّ جماعات مسلّحة أخرى إلى استغلال الفراغ.

دروس من العالم: عندما يختار المسلّحون طريق السياسة

تجربة حزب العمال الكردستاني، إذا نجحت، قد تصبح مصدر إلهام لحركات انفصالية أخرى في مناطق مضطربة من العالم. ففي أيرلندا الشمالية، أدّى اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998 إلى تخلّي الجيش الجمهوري الأيرلندي عن السلاح مقابل مكاسب سياسية واسعة، ما سمح بفتح صفحة جديدة من التعاون بين بريطانيا وإيرلندا. وفي كولومبيا، وقّعت الحكومة اتفاق سلام مع حركة القوات المسلّحة الثورية الكولومبية (فارك) عام 2016، أدّى إلى إدماج الآلاف من المقاتلين السابقين في الحياة السياسية، رغم التحديات التي ما زالت قائمة. حتى في الفلبين، أفضت اتّفاقات بين الحكومة وجبهة مورو الإسلامية إلى حكم ذاتي موسّع ساهم في تهدئة النزاع المستمر منذ عقود.

هذه التجارب أظهرت أن نزع السلاح لا يقتصر أثره على الداخل، بل يمتدّ ليعيد تشكيل العلاقات الإقليمية والدولية للدول المعنية. وإذا استطاعت تركيا والعراق البناء على هذه اللحظة، فقد تتحوّل الخطوة الكردستانية إلى نموذج شرق أوسطي نادر في إدارة الصراعات، يوازن بين تحقيق الأمن وتعزيز الحقوق.

دوليًّا، يمكن أن يسهم قرار نزع السلاح في تعزيز موقع أنقرة كلاعب إقليمي يسعى للاستقرار، ويخفّف الضغوط الغربية المرتبطة بعمليّاتها العسكرية في العراق. بالمقابل، ستجد بغداد نفسها أمام فرصة لإثبات قدرتها على إدارة الملف الكردي داخليًّا، وتقوية سيادتها الوطنية عبر التعاون مع تركيا بدلًا من التصعيد معها.

في النهاية، يشكّل قرار نزع السلاح خطوة أولى لكسر الحلقة المفرغة من العنف التي كبّلت الحدود التركية – العراقية لعقود. لكن تحويل هذه اللحظة إلى بداية عهد جديد يستدعي شجاعة سياسية حقيقية من الجانبين، وإرادة لتجاوز الحسابات الضيّقة، وبناء أسس شراكة قائمة على الأمن والتنمية والعدالة المشتركة.

هذه اللحظة التي شهدت حرق الأسلحة، بكل ما تحمله من آمال وهواجس، تختزل سؤالًا قديمًا يتردّد صداه في كلّ المناطق التي أرهقتها النزاعات: متى يصبح الصمت أقوى من هدير البنادق، ليس فقط في جبل قنديل، بل على امتداد المعمورة؟

فحين تختار البنادق أن تصمت، تمنح الإنسان فرصة لكي يتحدّث. وحين تلتهم نار المصالحة الأسلحة التي أحرقت أرواح الأبرياء لعقود، تكون الشعوب قد بدأت تستعيد حقّها الطبيعي في رؤية أبنائها يزهرون بدلًا من أن يحترقوا في أتون الحروب.

Scroll to Top