تبنّي مجلس الأمن للخطّة الأمريكية حول غزة: ترامب يحوّل الأمم المتحدة إلى مكبّر صوت لإرادة واشنطن

1000200684
تبنّي مجلس الأمن للخطّة الأمريكية حول غزة: ترامب يحوّل الأمم المتحدة إلى مكبّر صوت لإرادة واشنطن

لطالما قدّم دونالد ترامب نفسه كأحد أكثر المنتقدين صراحةً للأمم المتحدة. فقد كرّر مرارًا وصف المنظّمة بأنها بطيئة، بيروقراطية، مُسيّسة ومكلفة، مستخدمًا إيّاها كرمز لما يسمّيه بـ”البيروقراطية العالمية”. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الازدراء المعلن، فاجأ ترامب المراقبين عندما سعى لاستصدار قرار من مجلس الأمن لدعم خطّته بشأن غزة. هذا السلوك، الذي يبدو متناقضًا للوهلة الأولى، يعكس في الحقيقة مقاربة مدروسة بعناية تعتمد على اعتبارات القوّة لا على الالتزام بالمؤسّسات الدولية.

لفهم هذا التناقض الظاهر، يجب التمييز بين الرفض الخطابي الذي يعبّر عنه ترامب تجاه الأمم المتحدة والاستخدام الاستراتيجي لهذه المؤسّسة عندما تخدم مصالحه. فترامب قد لا يؤمن بالمثل العليا التي ارتكز عليها النظام متعدّد الأطراف، لكنه يدرك تمامًا قيمة مجلس الأمن كأداة تمنح الشرعية الدولية للمبادرات الأمريكية. منهجه كان دائمًا براغماتيًّا: يهاجم المؤسّسات حين تُقيّد النفوذ الأمريكي، لكنّه يلجأ إليها حين تعزّز هذا النفوذ وتمنحه قوّة دفع إضافية. وفي هذه الحالة، يمثّل مجلس الأمن مصدر الشرعية الدولية التي لا يمكن لأيّ اتّفاق ثنائي أو إقليمي أن يوفّرها.

مسار ملزم بصياغة أمريكية

في 17 نوفمبر 2025 اعتمد مجلس الأمن القرار 2803 (2025) الذي يؤيّد خطّة الولايات المتحدة في غزة ويفوّض نشر قوّة دولية للتثبيت والاستقرار. وقد حوّل هذا القرار الترتيبات الأمنية والسياسية لما بعد وقف إطلاق النار إلى إطار ملزم تحت رعاية الأمم المتحدة، ما أجبر مختلف الفاعلين الإقليميين—بمن فيهم الأطراف المناوئة لواشنطن—على العمل ضمن مسار صاغته الإدارة الأمريكية. كما قطع الطريق على أيّ مسارات دبلوماسية بديلة قد تنشأ من أوروبا أو مجموعة البريكس أو المؤسّسات الأممية الأخرى. ومع صدور القرار، أصبحت الخطّة الأمريكية المرجعية الرئيسية للتعامل مع ملفّ غزة.

وتوفّر الشرعية الأممية كذلك غطاءً سياسيًّا مهمًّا لإدارة العلاقات الإقليمية. فصدور قرار من مجلس الأمن يُرغِم إيران وكذلك الوسطاء كقطر وتركيا وسواها من القوى المؤثّرة على تبرير أيّ خروج عن ترتيبات وقف إطلاق النار أو آليّات إعادة الإعمار. أمّا بالنسبة للدول العربية، فإنّ القرار يمنحها حماية سياسية ضرورية: دعم الخطّة لا يعود إلى الاصطفاف خلف ترامب بل إلى الالتزام بقرار دولي. وهكذا تصبح الأمم المتحدة درعًا سياسيًّا يحمي الحكومات من الانتقادات الداخلية ويُسهِم في تثبيت التوازنات الإقليمية.

روسيا والصين: إمتناع “مسؤول”

أحد أبرز عناصر التصويت كان امتناع الصين وروسيا عن استخدام الفيتو والاكتفاء بالامتناع. وهذا يعكس محاولة روسيا للموازنة بين رفضها توسيع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط ورغبتها في تجنّب الظهور كقوّة تعرقل وقف إطلاق النار المدعوم عربيًّا. كما ترى موسكو أنّ ملفّ غزة ثانويّ مقارنةً بالساحة الأوكرانية، وهي حريصة على عدم خسارة شركائها في الخليج ومصر. أما الصين، فامتنعت بدورها لأنها لم ترغب في التصويت ضد خطّة تحظى بدعم شركائها الاقتصاديين الأساسيين مثل المملكة العربية السعودية وقطر ومصر، لكنّها في الوقت نفسه لا تريد منح واشنطن انتصارًا دبلوماسيًّا مكتملًا. الامتناع بالنسبة لبكين وموسكو هو موقف “مسؤول” شكليًّا، يحول دون منح ترامب الانتصار الرمزيّ الذي يطمح إليه.

إلى جانب ذلك، يوفّر قرار مجلس الأمن لترامب عازلًا سياسيًّا مهمًا. فحين يتم تأطير الخطّة داخل بنية أممية، تصبح المسؤولية عن أيّ فشل لاحق مسؤولية جماعية. وإذا انهار وقف إطلاق النار أو تعثّرت الترتيبات، يمكن لترامب أن يحمّل المجتمع الدولي جزءًا من المسؤولية بدل تحميل الولايات المتحدة اللوم وحدها. وفي سياق الشرق الأوسط شديد الحساسية، يكتسب هذا البعد السياسي أهمّية كبيرة.

ويمثّل تفويض نشر قوّة دولية للتثبيت والاستقرار في غزة أحد أكثر عناصر الخطّة حساسية. فلا يمكن لأيّ قوّة متعدّدة الجنسيات أن تنتشر دون غطاء قانونيّ وشرعيّ من مجلس الأمن. الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص لن تشارك في أيّ انتشار عسكري داخل غزة ما لم يكن قائمًا على قرار واضح من الأمم المتحدة. من هذا المنطلق، القرار ليس تبنّيًا لفلسفة العمل متعدّد الأطراف بقدر ما هو شرط ضروريّ لضمان تنفيذ الجانب الأمنيّ للخطّة.

إنتصار دبلوماسيّ وشخصيّ

كما ينطوي اللجوء إلى مجلس الأمن على بعد رمزيّ قويّ، فاستصدار قرار أمميّ—رغم سنوات الهجوم على المنظّمة—يتيح لترامب أن يقدّم نفسه باعتباره القائد الذي استطاع فرض أجندته على واحدة من أكثر المؤسّسات الدولية تعقيدًا. ويرسّخ هذا السردية التي لطالما روّج لها: “استعادة الهيبة الأمريكية”. دعم العالم—ولو بشكل غير كامل—لخطّة صاغتها واشنطن يمنح ترامب انتصارًا دبلوماسيًّا وشخصيًّا في آن واحد. في المحصّلة، لا يعكس لجوء ترامب إلى الأمم المتحدة أيّ تغيير في نظرته للعالم. بل يؤكّد مجدّدًا تمسّكه بمنهج براغماتي قائم على الحسابات البحتة للقوّة والمصلحة. فهو يرفض المؤسّسات حين تحدّ من حرية الحركة الأمريكية، ويلجأ إليها حين تصبح وسيلة فعّالة لتكريس النفوذ الأمريكي. وفي حالة غزة، لا تبدو الأمم المتحدة شريكًا في السلام بقدر ما هي مكبّر صوت لإرادة واشنطن ومنصّة شرعية لفرض خطّة تريدها الإدارة الأمريكية التي تسعى إلى أن تصبح المرجعية الوحيدة للمجتمع الدولي.

Scroll to Top