بقلم: نواف نعمان – رئيس التحرير
بعد أكثر من عقد من الدمار والاقتتال، تدخل سوريا اليوم مرحلة انتقالية تحمل أخطر التحديات منذ اندلاع النزاع عام 2011. فالأحداث الأخيرة في أنحاء متفرقة من البلاد تثير تساؤلًا جوهريًا: هل تستطيع سوريا إعادة بناء دولة مدنية جامعة لكل أبنائها، أم أنها ستظل حبيسة دوامة الصراع الطائفي والتجاذبات الإقليمية والدولية؟
هذا السؤال لا يعني السوريين وحدهم، بل يضع الدول العربية أمام اختبار مسؤولية تاريخية. ففي ظل الانقسامات العميقة التي خلفتها الحرب، يحتاج السوريون إلى دعم عربي واضح لإرساء وفاق وطني شامل يعيد اللحمة إلى نسيج اجتماعي مهدد بالتمزق، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد يحمي حقوق جميع المكونات الطائفية والعرقية دون تمييز.
يخطئ من يظن أن سوريا الجديدة شأن داخلي يخص السوريين وحدهم. فموقعها الجيوسياسي، وتركيبتها الاجتماعية المتنوعة، وعمقها التاريخي في الهوية العربية، تجعل استقرارها ركيزة أساسية لأمن الإقليم بأسره. لقد كانت سوريا ولا تزال قلب المشرق العربي، وتركها لمصير تحدده القوى الإقليمية والدولية الممتدة بين طهران، موسكو، وأنقرة يعني التخلي عن أحد أعمدة البيت العربي.
إن التجارب الإقليمية، من العراق إلى لبنان، أثبتت بمرارة أن إقصاء أي مكون اجتماعي أو طائفي يولّد عنفًا دائمًا ويضعف الدولة أمام التدخلات الخارجية. سوريا الجديدة لا يمكن أن تُبنى على فكرة “الغالب والمغلوب” أو استئثار طرف واحد بالسلطة، بل على عقد اجتماعي جديد يقوم على ضمان المواطنة المتساوية بعيدًا عن الطائفية، واعتماد لامركزية سياسية وإدارية تمنح المجتمعات المحلية دورًا أكبر في إدارة شؤونها.
وحتما تتوجب عملية تأسيس جيش وأجهزة أمنية وطنية انعكاس التنوع السوري بكافة أطيافه، لا لونًا طائفيًا واحد، كما أنه لابد من صياغة دستور يضمن حقوق الأقليات ويحميهم من أي نزعات انتقامية أو تهميش.
إن هذا الوفاق ليس خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل ضرورة وجودية تحول دون انزلاق سوريا مجددًا إلى مستنقع الحرب الأهلي.
غياب الصوت العربي في مواجهة الاعتداءات
لكنه من المؤسف أن الاعتداءات الأخيرة التي طالت الأقلية الدرزية في السويداء لم تقابل بإدانات واضحة من معظم العواصم العربية. هذا الصمت، أو الاكتفاء بردود فعل خجولة، يبعث برسائل مقلقة إلى المكونات السورية الأخرى بشأن غياب الضمانات العربية لحمايتها في سوريا الجديدة. فإذا أرادت الدول العربية أن تلعب دورًا حقيقيًا في صياغة مستقبل سوريا، فعليها أولًا أن تثبت التزامها الأخلاقي والسياسي بالدفاع عن جميع أبنائها دون تمييز، وأن ترفض أي شكل من أشكال الانتقام أو الإقصاء الطائفي.
ورغم المشهد القاتم، ما زالت هناك نافذة أمل. فإنه من الممكن للدول العربية، إذا تحركت اليوم، أن تصبح الضامن الرئيسي لوفاق وطني يضمن لجميع السوريين حقوقًا متساوية ويحول دون عودة الإقصاء والاستبداد. إن هذا الدور لن يكون مجرد التزام أخلاقي، بل استثمارًا مباشرًا في استقرار الإقليم، إذ سيحول دون تحوّل سوريا إلى خاصرة رخوة تُفاقم التوترات والصراعات العابرة للحدود.
سوريا الجديدة هي اختبار للعرب قبل أن تكون اختبارًا للسوريين. الدفع نحو وفاق وطني وحماية جميع المكونات الطائفية والعرقية، وخاصة تلك التي تعرضت للاعتداءات الأخيرة، ليس مجرد واجب أخلاقي أو التزام قومي، بل ضرورة استراتيجية للحفاظ على استقرار المشرق العربي بأكمله.
لقد آن الأوان للعرب أن يثبتوا قدرتهم على صياغة حل عربي لأزمات المنطقة، حل يعيد لسوريا مكانتها كدولة موحدة، قوية، ومستقرة؛ دولة لكل السوريين دون استثناء.