شهد العراق إنتخابات برلمانية في 11 نوفمبر وُصفت بالمصيرية، بالرغم من أنّها لم تتضمّن مفاجآت معاكسة للتوقّعات. ووفقاً للنتائج الأوليّة التي أعلنتها مفوضية الانتخابات، حصل ائتلاف “الإعمار والتنمية” بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على المرتبة الأولى في بغداد. بينما جاء حزب “تقدّم” برئاسة محمد الحلبوسي في المركز الثاني، وحلّ “ائتلاف دولة القانون” ثالثًا.
ولكن مع طيّ صفحة الاقتراع العام، انطلقت فعليًّا معركة ما بعد الصناديق، حيث تتسابق القوى السياسية لتأمين مواقعها في خريطة الحكم المقبلة. ويبدو أنّ الصراع هذه المرة لا يدور حول المقاعد فحسب، بل حول هويّة المرحلة القادمة التي يساهم الصراع الأمريكي- الإيراني على النفوذ في تحديد معالمها الرئيسية.
حرب داخلية ضد السوداني
تقدّم السوداني أثار قلق القوى التقليدية داخل “الإطار التنسيقي” الذي ينتمي إليه، من أن يمنحه التفوق مزيدًا من الاستقلالية السياسية، بما قد يهدّد توازنات النفوذ داخل المعسكر الشيعي الموالي لإيران.
وتشير المعطيات إلى أنّ أطرافًا نافذة داخل “الإطار التنسيقي” بدأت تحّركات مبكرة لإعادة ترتيب التحالفات بهدف سحب الغطاء السياسي عن السوداني، ومنعه من الظفر بولاية ثانية. وتستند هذه المساعي إلى قراءة ترى في صعود رئيس الوزراء خطرًا على هيمنة القوى المرتبطة بطهران على القرار الشيعي، بخاصّة بعد أن حاول السوداني خلال ولايته الأولى رسم مسافة فاصلة بين الحكومة ومراكز النفوذ التقليدية.
وفيما يسعى السوداني إلى ترجمة تفويضه الشعبي إلى مشروع وطني متماسك من منطلق أنّ “العراق للجميع” كما صرّح بعيد إعلان فوزه، يبدو أنّ خصومه داخل “الإطار التنسيقي” عازمون على تقويض هذا المسار عبر بناء كتلة برلمانية جديدة تُعيد إنتاج التوازنات القديمة تحت شعارات “الوحدة الشيعية” و”الاستقرار السياسي”.
يتمحور الصراع السياسي حول تفسير مفهوم “الكتلة النيابية الأكبر عددًا”، حيث لا تعني الكتلة أو الائتلاف الذي يفوز بأكبر عدد من المقاعد مباشرة بعد الانتخابات، بل هي التي تتكوّن وتُعلَن داخل البرلمان من خلال تجميع التحالفات والتوافقات بين الكتل الفائزة.
ويهدف “الإطار التنسيقي” بدعم من إيران إلى استغلال هذا التفسير الدستوري لـ”تقزيم” فوز السوداني الانتخابي وتحويله إلى نصر شكلي لا يترجم إلى نفوذ حكومي مطلق وذلك من خلال جمع أكبر عدد من نوّاب القوى التي خاضت الانتخابات منفردة، واستقطاب كتل أخرى، لتشكيل الكتلة التي يحقّ لها دستوريًّا ترشيح رئيس الوزراء.
وبالرغم من تأكيد مصادر مقرّبة من “الإعمار والتنمية” إنّه أصبح “الكتلة الأكبر”، ممّا يمنح السوداني الأفضلية في التفاوض لتشكيل الحكومة المقبلة، إلاّ أنّ الواقع يقول أنّه في العراق، لا يستطيع حزب بمفرده تشكيل حكومة في مجلس النوّاب المؤلف من 329 عضواً. وهو وضع يدفع الأحزاب إلى بناء تحالفات، في عملية تستغرق عادةً شهورًا.
تأخير التشكيل
يدين “الإطار التنسيقي” بالولاء إلى طهران ويعمل على حماية مصالحها وتوسيع نفوذها، بينما يمثّل فوز السوداني تحدّيًا مباشرًا لهذا النفوذ. وتعني محاولة القوى الشيعية تشكيل الكتلة الأكبر إصرارًا على الاحتفاظ باليد العليا في صناعة القرار لضمان استمرار حماية المصالح الإقليمية.
ومن المنتظر أن تشهد الأسابيع القادمة “مساومة سياسية” حادّة، حيث ستسعى الكتل الشيعية، بالإضافة إلى الكتل السنّية والكردية، إلى التحالف لتجميع الأصوات. وسيحدّد موقف هذه الأطراف ترجيح الكفّة لصالح “الإطار التنسيقي” أو لصالح السوداني. ويُتوقّع أن تؤدّي هذه المنافسة الحادّة إلى تأخير تشكيل الحكومة وإطالة أمد المفاوضات، ممّا يهدّد الاستقرار النسبي الذي شهده العراق مؤخراً، ويضع العملية السياسية في حالة ترقّب وقلق.
وفيما هنّأت كلّ من واشنطن وطهران العراق بنجاح الانتخابات البرلمانية، إلاّ أنّ الصراع مستمرّ بينهما على النفوذ في بلد تتقاطع فيه مصالحما بشكل قويّ ومؤثّر. وقد استطاع السوداني حتى الآن الحفاظ على توازن دقيق في العلاقات مع كلّ من الولايات المتّحدة وإيران، ولكن هذا التوازن يمرّ بمرحلة دقيقة في هذه المرحلة.
طهران: تراجع أم تغيير مسار؟
إيران، التي مثلت منذ عام 2003 أحد أبرز مراكز التأثير في القرار العراقي، تواجه اليوم واقعاً مختلفاً؛ أدواتها السياسية لم تعد كما كانت، والضغوط الأمريكية تتصاعد، فيما تتنامى داخل العراق الدعوات إلى تحييد التأثيرات الخارجية والالتزام بسيادة القرار الوطني. طهران، التي كانت لسنوات تمتلك القدرة على توجيه المشهد السياسي في بغداد، تواجه الآن تراجعًا في مكاسبها نتيجة الانقسامات داخل القوى الشيعية والضغوط الأمريكية المتزايدة.
لكن قراءة واقعية للمشهد تشير إلى أن هذا التراجع لا يعني فقدان النفوذ بالكامل، بل انتقاله من المسار السياسي المباشر إلى مسارات أخرى أكثر مرونة، أبرزها الاقتصاد والطاقة والتجارة الحدودية. فعلى الرغم من عدم قدرتها على التأثير في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، ما زالت إيران تحتفظ بحضور اقتصادي يجعلها شريكًا أساسيًّا في ملفّات حيوية، بخاصّة في مجال الغاز والكهرباء والأمن. والإتفاقية الأمنية التي وقّعتها إيران مع العراق في أغسطس 2025 في إطار “تعزيز العمل الأمني المشترك على الحدود العراقية-الإيرانية” التي تمتدّ لأكثر من 1400 كيلومتر، ما زالت تثير حفيظة واشنطن.
العراق يمثل منفذًا اقتصادياً حيويًّا لإيران، بخاصّة في ظلّ استمرار العقوبات الأمريكية. وتُظهر المؤشّرات الاقتصادية أنّ العلاقات الثنائية في مجالات الغاز والكهرباء والتبادل التجاري أصبحت متشابكة بدرجة تجعل من الصعب الفصل بين الجانبين. وبحسب خبراء اقتصاد، فإنّ أيّ حكومة عراقية مقبلة ستضطر للحفاظ على هذا التوازن لضمان استقرار السوق المحلية وتجنّب أزمات طاقة أو واردات.
الشراكة مع واشنطن
وفي المقابل، فإنّ إن الشراكة العراقية مع الولايات المتحدة في مبادرات الطاقة والأمن لا تعزّز الأهداف العراقية فحسب، بل يمكن أن تخدم أيضاً أهداف سياسة الرئيس ترامب، وتواجه النفوذ الإيراني والصيني في العراق، وتخلق مزيداً من الفرص الاقتصادية، وتُسهّل الجهود الأوسع نطاقًا لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. فالعلاقة مع واشنطن في قطاع الطاقة، بما في ذلك الغاز الطبيعي، من أهم الشراكات التي تسعى الحكومة العراقية إلى تعزيزها.
توسيع التعاون الثنائي في مجال الطاقة أمر ممكن. لكن لكي ينجح ذلك، من الضروري تحقيق الأمن والاستقرار في العراق، لا سيّما في ظل المخاطر الجيوسياسية التي يشكلها الصراع بين إيران وإسرائيل. كما أنّ التأكيد على التعاون في مجالي الطاقة والأمن يمكن أن يخدم بشكل مباشر أهداف الولايات المتحدة المتمثّلة في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني، وخلق فرص اقتصادية جديدة، وتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.
لذلك، تتصاعد الضغوط الأمريكية لإعادة هيكلة دور الفصائل المسلحة داخل العراق. ورغم أن هذه الخطوات تحظى بدعم من بعض القوى السياسية، فإنّها تواجه تحدّيات واقعية، إذ إنّ جزءًا من تلك الفصائل مدمج ضمن مؤسسات الدولة. وحتى الآن، نجحت واشنطن في تضييق نطاق حركة بعض الجماعات، لكن من دون تغيير فعلي في ميزان القوّة على الأرض.
الحسم بعيد كلّ من الولايات المتحدة وإيران تتابعان التطوّرات في العراق عن قرب، وسط تنافس واضح على النفوذ. وتشير التقديرات إلى أن النفوذ الأمريكي في الوقت الحالي يعتمد على الضغط السياسي والدبلوماسي، بينما ترتكز قوة طهران على شبكة نفوذ تراكمت خلال عقدين داخل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. هذا التوازن لا يزال هشًّا، إذ لم تعد أيّ من القوّتين قادرة على حسم التأثير الكامل، ممّا يجعل العراق حتى الآن ساحة إدارة نفوذ لا ساحة هيمنة مطلقة.