في خطوة دبلوماسية لم يكن أحد ليتوقّعها قبل أشهر فقط، وقّعت عشر دول عربية، بينها المملكة العربية السعودية، قطر، ومصر، إعلانًا مشتركًا في نيويورك، يدعو بشكل غير مسبوق إلى نزع سلاح حركة حماس وتسليم ترسانتها العسكرية إلى السلطة الفلسطينية. المبادرة التي صاغتها باريس والرياض، تمثّل تحوّلًا استراتيجيًا في موقف العالم العربي من القضية الفلسطينية، كما ترسم ملامح جديدة لمرحلة تطبيع مشروط مع إسرائيل.
وجاء في نصّ الإعلان: “ندعو حركة حماس إلى إنهاء سيطرتها على قطاع غزة، وتسليم سلاحها إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، تمهيدًا لبناء وحدة وطنية حقيقية، ووضع حد لدورات العنف المتكررة.”
ردّ حماس: لا سلاح بلا دولة مستقلة
في أول ردّ رسمي على الإعلان، رفضت حركة حماس هذه الدعوة، معتبرة أنها تُمثّل ضغطًا سياسيًا غير مشروع، وتتناقض مع “الحقّ المشروع في المقاومة طالما بقي الاحتلال قائمًا”. وقال متحدث باسم الحركة إن “السلاح لن يُسلَّم إلا بعد قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس”، نافيًا أي استعداد مسبق أو لاحق للتنازل عنه خارج هذا الإطار.
كما اعتبرت حماس زيارة المبعوث الأمريكي إلى غزة، ستيف ويتكوف، التي زعمت بعض الأوساط أنها حملت وعودًا من الحركة بالتهدئة ونزع السلاح، “مسرحية إعلامية”، مؤكّدة أنها متمسّكة بسلاحها باعتباره ورقة قوّة وليس عبئًا سياسيًا، في ظلّ فشل المسارات التفاوضية السابقة في تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني.
الدول الراعية: تحالف غير مسبوق
ما يُضفي على “إعلان نيويورك” ثقلاً سياسيًا غير مسبوق هو حجم وتنوّع الجهات التي تبنّته. فقد جاء الإعلان برعاية مباشرة من المملكة العربية السعودية وفرنسا، وبدعم دبلوماسي فاعل من قطر ومصر، ما يعكس توافقًا بين أطرافٍ كانت حتى وقت قريب تختلف في مقاربتها لحركة حماس والصراع الفلسطيني–الإسرائيلي. كما وقّعت عليه الأردن ودول عربية أخرى، فيما دعمته جامعة الدول العربية بصفتها الجامعة الرسمية لجميع أعضائها البالغ عددهم 22 دولة.
ولم يقتصر الزخم على المستوى العربي، بل انضمّت إلى الإعلان دول غير عربية ذات تأثير في الملف الفلسطيني، مثل فرنسا، تركيا، كندا، إيطاليا، اليابان، إيرلندا، إندونيسيا، إسبانيا، النرويج، السنغال، والمكسيك، إلى جانب الاتحاد الأوروبي. هذا التلاقي بين العرب والغرب، وبمشاركة دول من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، يُشير إلى إجماع دولي يتبلور لأول مرة حول ضرورة إعادة هيكلة المشهد الفلسطيني عبر تفكيك سلطة حماس وتسليم زمام الأمور لسلطة شرعية معترف بها.
هذه الرعاية المتعدّدة لا تعبّر فقط عن اتفاق دبلوماسي، بل تُجسّد أيضًا تحوّلاً في أولويّات الأمن الإقليمي والدولي، حيث بات ينظر إلى “غزة بلا سلاح” كشرط أساسي لأي تسوية سياسية قابلة للحياة، وكأساس لتكامل إقليمي اقتصادي وأمني قادم.
تهميش حماس علنًا
لأول مرة، تُحمّل دول عربية ذات نفوذ، بينها دول لطالما دعمت حماس، مثل قطر، الحركةَ مسؤولية عرقلة مسار السلام. الإعلان لا يكتفي بإدانة ضمنية، بل يمثّل تهميشًا دبلوماسيًا معلنًا، من خلال تصنيف حماس كعقبة أمام التسوية، لا كفاعل شرعي في المقاومة الفلسطينية. هذه الرسالة السياسية تحمل أبعادًا عميقة، بخاصّة في توقيتها وسياقها الإقليمي والدولي المتحوّل.
الرهان السعودي وعودة الدور الفرنسي
من خلال هذه المبادرة، تسعى المملكة العربية السعودية إلى ترسيخ مكانتها كقائدة إقليمية فاعلة، وتوسيع نفوذها في سياق تفاهمات مع واشنطن. فالدعوة إلى إنشاء “مهمّة استقرار دولية مؤقتة” في غزة تحت رعاية الأمم المتحدة، والدعم الصريح “لمراقبة وقف إطلاق النار”، يعكسان رغبة الرياض في لعب دور الضامن الإقليمي لتوازن جديد، يتجاوز منطق المواجهة التقليدية.
أمّا باريس، فلم تُحقق جميع أهدافها من المؤتمر، بخاصّة في ما يتعلق بالاعتراف المشترك والفوري بالدولة الفلسطينية، لكنّها نجحت في دفع مجموعة من الدول العربية نحو توافق غير مسبوق. دعم فرنسا، إلى جانب بريطانيا وكندا ودول أوروبية أخرى، لمسعى الاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر، أعاد تنشيط الرؤية الدولية لحل الدولتين، وأعاد الدبلوماسية الفرنسية إلى قلب معادلة الشرق الأوسط.
معضلة إسرائيل وضعف السلطة الفلسطينية
التحوّل العربي المفاجئ يضع إسرائيل أمام خيار صعب: فالدعوة العربية لنزع سلاح حماس قد تبدو انتصارًا مرحليًا، لكنها تُقابل بدفع نحو عملية سياسية جدّية. فـالتطبيع المشروط الذي تطرحه العواصم العربية، يفرض على إسرائيل تقديم تنازلات ملموسة حول الدولة الفلسطينية، الأمر الذي يتعارض مع توجّهات الحكومة اليمينية الحالية، ويثير جدلًا داخليًا متصاعدًا.
رغم الزخم الذي رافق إعلان نيويورك، إلا أن التطبيق يواجه تحدّيات كبرى. فحماس لا تزال تملك قاعدة اجتماعية وقدرات ميدانية في غزة، فيما تعاني السلطة الفلسطينية من ضعف مزمن واتهامات بسوء إدارة مناطقها. أما الضمانات الأمنية التي طُرحت، فلا تزال غامضة وغير ملزمة، ما يُضعف فرص تحقيق اختراق فعلي على الأرض. وقد يُعقّد رفض حماس، المتجذّرة اجتماعيًا وعقائديًا في غزة، إمكانية تنفيذ أي ترتيبات أمنية دون مواجهات داخلية.
نحو إصلاح إقليمي برؤية اقتصادية
يفتح إعلان نيويورك الباب أمام تكامل اقتصادي غير مسبوق، إذ يُمكن لتطبيع مدروس أن يُفضي إلى قيام كيان اقتصادي إقليمي يشمل إسرائيل وفلسطين ودول الخليج. التعاون في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، والبنية التحتية، قد يُشكّل رافعة مشتركة لتسريع التنمية، وتحقيق مصالح أمنية وتنموية متقاطعة بين الشرق الأوسط وأوروبا.
وربما يُشكّل هذا الإعلان بداية نهاية حقبة طالما اتّسمت بالمواقف الرمزية وردود الفعل الأيديولوجية. فدول عربية وازنة باتت تُقدّم الاستقرار الإقليمي والجدوى الاقتصادية على حساب الشعارات التقليدية. ومع ذلك، فإنّ رفض حماس الواضح للسير في هذا الاتجاه يُشير إلى أنّ الطريق نحو تسوية شاملة لا يزال طويلًا، محفوفًا بالعقبات، ومشروطًا بإرادات محلية لا يمكن تجاوزها بخطابات دولية فقط.