الضغط الاستراتيجي على إيران: ممرّات الشمال وتراجعات الجنوب

الضغط الاستراتيجي على إيران: ممرّات الشمال وتراجعات الجنوب

أثار اتّفاق السلام الذي تمّ بوساطة أمريكية بين أرمينيا وأذربيجان، والموقّع في واشنطن في 8 أغسطس 2025، قلقًا عميقًا في طهران. فالاتّفاق يمنح الولايات المتحدة حقوق تطوير حصرية لممرّ استراتيجي عبر جنوب أرمينيا، يربط أذربيجان بجيبها ناختشيفان. بالنسبة لإيران، هذا التطوّر ليس حدثًا محليًا معزولًا، بل جزء من مشهد أوسع يعكس تضييق المجال الجيوسياسي أمامها.

روسيا: خسارة دور وصدمة دبلوماسية

يمثّل الاتّفاق ضربة واضحة للنفوذ الروسي في جنوب القوقاز. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت موسكو اللاعب الأبرز في إدارة الصراع الأرمني الأذربيجاني من خلال مجموعة مينسك ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. إلا أن الاتفاق الجديد، الذي جاء بوساطة أمريكية خالصة، همّش هذه المنصّات وأقصى روسيا فعليًّا عن موقع الضامن الرئيسي.

إضافة إلى ذلك، فإنّ انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا قلّل من قدرتها على المناورة في القوقاز، بينما استغلّت واشنطن هذا الفراغ لفرض حضورها السياسي والاقتصادي في قلب منطقة تعتبرها روسيا جزءًا من مجالها الحيوي. عرض روسيا نشر قوّات حفظ سلام عبر منظمة معاهدة الأمن الجماعي لم يجد صدى لدى أرمينيا، التي تبتعد تدريجيًا عن المظلّة الأمنية الروسية باتّجاه شركاء غربيين.

هذا التراجع يضع روسيا في موقع الباحث عن شركاء استراتيجيين قادرين على مواجهة التمدّد الأمريكي في محيطها المباشر. وهنا تبرز إيران كحليف محتمل، ليس فقط بحكم موقعها الجغرافي المتاخم للممرّ الجديد، بل أيضًا بوصفها طرفًا متضرّرًا من تعزيز النفوذ الأمريكي والتركي في المنطقة. ومن شأن هذه المصالح المشتركة أن تدفع موسكو وطهران إلى تنسيق أكبر سياسيًّا وأمنيًّا، وربّما إلى إعادة إحياء صيغ تعاون إقليمية تستثني الغرب.

انتصار دبلوماسي لترامب

يمثّل الاتّفاق كذلك انتصارًا دبلوماسيًّا كبيرًا للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي نجح في جمع قادة أرمينيا وأذربيجان على طاولة واحدة والتوصّل إلى صيغة سلام تمنح واشنطن نفوذًا مباشرًا في جنوب القوقاز. هذا النجاح يعزّز صورة ترامب كصانع صفقات دولية، ويمنحه ورقة ضغط إضافية على خصوم الولايات المتحدة، وفي مقدمتّهم إيران وروسيا، اللتان كانتا تاريخيًا من اللاعبين الأساسيين في هذه المنطقة الحسّاسة.

خسارة شريان حيوي وانعكاسات داخلية

يمرّ ما يعرف بـ«ممرّ زنغزور» بمحاذاة الحدود الإيرانية القصيرة مع أرمينيا، وهي المنفذ البرّيّ الوحيد لإيران إلى الفضاء الأوراسي بعيدًا عن تركيا وأذربيجان. وضع هذا الممرّ تحت إشراف أمريكي يهدّد بحرمان إيران من شريان تجاري حيوي، ويعزّز في الوقت عينه محور تركيا- أذربيجان الموالي للناتو، ما يثير مخاوف طهران من انعكاسات داخلية على الأقلية الأذريّة في إيران.

ردّة فعل إيران: خطّ أحمر

استقبلت طهران الإعلان عن الاتّفاق بلهجة تحذيرية شديدة، مؤكّدة رفضها لأيّ تغييرات في الجغرافيا السياسية لجنوب القوقاز من شأنها التأثير على أمنها القومي. وزارة الخارجية الإيرانية وصفت الممرّ الجديد بأنّه “خطّ أحمر” بالنسبة لإيران، محذّرة من أنّ أيّ وجود عسكري أجنبي بالقرب من حدودها الشمالية سيقابل بإجراءات “حاسمة”. كما ألمح مسؤولون في الحرس الثوري إلى أنّ إيران ستكثّف وجودها العسكري على الحدود مع أرمينيا، وستعمل على تعزيز التعاون الأمني مع يريفان وموسكو لمواجهة ما تعتبره محاولة أمريكية- تركية لتطويقها. في الوقت ذاته، تحرص طهران على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع باكو، حفاظًا على مسارات التعاون الاقتصادي والطاقة القائمة بين البلدين.

تراجع النفوذ في الشرق الأوسط

يأتي هذا الاّتفاق بالتزامن مع تراجع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، ففي العراق، تصعد تيارات شيعية تقلّل من نفوذ طهران، بينما يزداد الحضور الاقتصادي الخليجي، ففي سوريا، يقلّل الانفتاح على الاستثمارات الخليجية والأمريكية والأوروبية من وزن الوجود الإيراني الذي تراكم في عهد الأسد.

وفي اليمن، تتقدّم مفاوضات السلام بدون دور قيادي لإيران، ممّا يقلص قدرتها على استخدام الحوثيين كورقة ضغط. أمّا في الملفّ الفلسطيني، فالتقارب العربي- الإسرائيلي المشروط يعزل خطاب “محور المقاومة” الإيراني.

كمّاشة استراتيجية وخيارات مصيرية

إزاء هذه التطوّرات، تجد إيران نفسها بين كمّاشتين: شمالًا، ممرّ يخضع لنفوذ أمريكي يحدّ من اتّصالها التجاري ويهدّد أمنها الحدودي، وجنوبًا وغربًا، نظام إقليمي ناشئ يقلّص دورها السياسي والعسكري. لذلك، لا بدّ لها من اتّخاذ خيارات مصيرية سريعة، منها التحرّك لتعزيز علاقاتها الأمنية مع أرمينيا وروسيا، أو طرح ممرّات عبور بديلة عبر أراضيها، أو تسريع مشاركتها في ممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب. كما قد تحاول إيران إعادة تفعيل أدوات نفوذها التقليدية في العراق ولبنان واليمن، رغم تضاؤل العوائد.

ممر زنغزور ليس مجرّد مشروع بنية تحتية، بل إشارة إلى تحوّلات عميقة في ميزان القوى، تمسّ أمن إيران ومجالها الحيوي شمالًا وجنوبًا. وردّ فعل طهران في الشهور المقبلة سيحدّد ما إذا كان هذا التحدّي فرصة للتكيّف، أم بداية لعزلة أوسع.

Scroll to Top