بين إعادة إعمار سوريا وتخفيف قبضة طهران على المنطقة، تتحرّك دول الخليج بخطوات محسوبة لترسيخ نفوذ عربي جديد يوازن القوى الإقليمية ويمنع تكرار سيناريوهات الفوضى.
في الشرق الأوسط، حيث تُرسم التحالفات وتُختبر الإرادات، وجدت دول الخليج العربي نفسها أمام فرصة نادرة لإعادة تعريف دورها الإقليمي. فبينما تلتقط سوريا أنفاسها بعد سنوات من الدمار وتعيد ترتيب أوراقها السياسية، تتحرّك العواصم الخليجية بخطوات مدروسة لإعادة إدماج دمشق في الفضاء العربي، مستثمرة في إعادة الإعمار، ومتحسّبة من النفوذ الإيراني الذي ما زال يطوّق المنطقة. هنا، تتقاطع مصالح الأمن القومي مع الطموحات الاقتصادية، والدبلوماسية الناعمة مع حسابات القوّة الصلبة، في مشهد يؤكّد أن الخليج لم يعد مجرّد مراقب، بل لاعب رئيسي يسعى لتثبيت نظام إقليمي جديد أكثر انسجامًا مع رؤاه ومصالحه.
في لحظة فارقة من تاريخ الشرق الأوسط، تتحرك دول الخليج العربي لرسم معادلة جديدة تجمع بين إعادة بناء سوريا التي مزّقتها الحرب، وتقليص نفوذ إيران الذي طالما شكّل تهديدًا للأمن الإقليمي. الاستراتيجية الخليجية لا تقتصر على ضخّ المليارات في مشاريع الإعمار، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة صياغة موازين القوى في المنطقة عبر مزيج من الدبلوماسية الذكية والاستثمارات الاستراتيجية، في محاولة لإثبات أنّ الحلول العربية قادرة على النجاح حيث فشلت الجهود الدولية.
الإمارات العربية المتحدة
فبعد سنوات من الإقصاء والعقوبات، عادت سوريا بسرعة مذهلة إلى الفضاء العربي. سقوط نظام بشار الأسد وصعود حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع قدّما لدول الخليج فرصة لإعادة دمج دمشق ضمن المنظومة العربية، وتوجيه مسارها بعيدًا عن محور إيران. وفي لحظة فارقة من تاريخ المنطقة، تبنّت الإمارات العربية المتحدة دورًا رياديًّا في هذا الانفتاح، وكانت أوّل دولة خليجية تعيد فتح سفارتها في دمشق عام 2018، في خطوة اعتُبرت استشرافًا لمرحلة ما بعد الأسد.
ومع سقوط النظام وصعود الشرع إلى السلطة، تسارعت وتيرة الانخراط الإماراتي عبر قنوات دبلوماسية واقتصادية متعددة. ففي 13 أبريل 2025، استقبل رئيس الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد النهيان الرئيس أحمد الشرع في أبوظبي، في أول زيارة رسمية للشرع، حيث جرى خلال اللقاء بحث دعم إعادة إعمار سوريا، واستئناف الرحلات الجوية بين البلدين، وتوسيع التعاون الاقتصادي والاستثماري. هذا التقارب تعزّز خلال لقاء ثانٍ في 7 يوليو 2025، عندما استضاف الشيخ محمد بن زايد الشرع مرّة أخرى بأبوظبي، حيث ركّزت المباحثات على تعزيز الشراكة الاستراتيجية، دعم مسار إعادة الإعمار، والتعاون في مجالات البنية التحتية والطاقة. كما ناقش الجانبان التنسيق الأمني لمواجهة التحديات المشتركة.
المملكة العربية السعودية وقطر
المملكة العربية السعودية وقطر تبنّتا مقاربة تكاملية، حيث سدّدتا معًا ديون سوريا للبنك الدولي البالغة 15,5 مليون دولار، ما أتاح الوصول إلى منح لإعادة الإعمار. كما التزمت الدوحة بدفع 29 مليون دولار شهريًا لتغطية رواتب موظفي القطاع العام السوري، وقادت كونسورتيوم لمضاعفة إمدادات الطاقة، في خطوة تهدف إلى تحصين الاقتصاد السوري ومنع فراغات قد تستغلها قوى متطرفة أو أجندات أجنبية. فهما يسعيان إلى ترسيخ الاستقرار في سوريا وضمان عدم تحولها إلى نقطة ارتكاز لنفوذ إيران أو الجماعات المسلّحة.
لكن المهمة ليست سهلة، فإيران التي كانت الداعم الأكبر لنظام آل الأسد لعقود عديدة، رسّخت وجودها العسكري والاقتصادي العميق في سوريا ضمن ما يعرف بـ“محور المقاومة”. وفي الوقت الذي تحاول فيه العواصم الخليجية تقليص هذا النفوذ من خلال الانفتاح السياسي والمساعدات الاقتصادية، تبقى المخاوف قائمة، بخاصّة بعد حادثة إطلاق إيران صواريخ على قاعدة العديد الجوية في قطر خلال المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، وهو حدث اعتُبر إنذارًا واضحًا على ضرورة تعزيز الأمن الجماعي الخليجي رغم مؤشّرات التقارب مع طهران منذ 2023.
لكل دولة خليجية أسلوبها الخاص في التعامل مع هذه التعقيدات. قطر تواصل دورها التقليدي كوسيط نشط بين الأطراف المتصارعة، مستفيدة من علاقاتها مع الولايات المتحدة وإيران وحتى إسرائيل. أمّا السعودية، فتبني نهجًا أكثر براغماتية يقوم على سياسة حلّ كافة المشاكل مع الجيران، مع تركيز وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان آل سعود على تحقيق أهداف رؤية 2030 وتقليص الانخراط العسكري في الأزمات. في المقابل، تحافظ عُمان على سياسة موازنة دقيقة، من خلال الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع جميع الأطراف الإقليمية.
فرص النجاح ومخاطر الفشل
ورغم الزخم الحالي، يواجه المشروع الخليجي تحدّيات كبرى. فالشبكات الإيرانية في سوريا لا تزال قوية، والحكم الانتقالي في دمشق هشّ ومعرّض للانهيار في حال عدم تنفيذ إصلاحات جادة. كما أنّ المجتمع الدولي يظل حذرًا من الاستثمار في بيئة سياسية غير مستقرّة.
بين الفرص والمخاطر، يمثّل المشهد السوري اختبارًا حقيقيًا لطموح دول الخليج في لعب دور قيادي عربي قادر على ملء الفراغ الإقليمي. نجاحها في إعادة إعمار سوريا مع تحجيم النفوذ الإيراني قد يعيد رسم خارطة التوازنات الجيوسياسية لصالح العرب، بينما الفشل قد يفتح الباب أمام جولات جديدة من الفوضى. في هذه اللحظة، لم يعد الرهان على سوريا وحدها، بل على مستقبل الشرق الأوسط بأسره.