يسجّل اتّفاق وقف الحرب في غزّة الذي تمّ توقيعه في شرم الشيخ في 13 أكتوبر دفعًا جديدًا لانخراط الشرق الأوسط في العصر الأمريكي وتحديدًا عصر الرئيس دونالد ترامب. فالإنجاز الذي دوّنه ترامب في غزة تحت عنوان “اتفاق ترامب للسلام” لم يكن مجرّد اتفاق ميداني، بل لحظة استعادة رمزية لـ”هيبة القرار الأمريكي” التي فقدتها الإدارات السابقة. فالرئيس الذي كان يُتَّهم في فترة ولايته الأولى بالانسحاب من الشرق الأوسط عاد اليوم ليُظهر أنّه قادر على فرض اتّفاق في ملفّ بالغ التشابك، مستخدماً أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية في آنٍ واحد.
ويأتي هذا الاتفاق خلال القمّة التي جمعت أكثر من ثلاثين رئيس دولة ومنظمة، والذي وقّعته كلّ من الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وتركيا وقطر محمّلاً بأسئلة عدّة انطلاقا من الغياب اللافت لأهمّ الدول والمنظّمات الفاعلة في المنطقة عن حفل التوقيع وعن المشاركة الميدانية في التنفيذ، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة وعدد من دول الإتّحاد الأوروبي وروسيا والصين، مقابل الحضور اللافت أيضًا لدول قريبة جغرافيا من الصين مثل باكستان والهند وإندونيسيا.
دوافع وحيثيّات
لا شكّ أنّ قرار وقف الحرب في غزّة أتى وليد مجموعة من الدوافع والحيثيّات، أهمّها نضج قرار داخل إدارة الرئيس الأمريكي بوجوب إعلان خطّة السلام التي تشمل في آمالها إنهاء “صراع 3 آلاف عام”، حسب وصفه.
فقد تلمّس ترامب في مطلع ولايته الجديدة المزاج الإقليمي المعاند لقواعد التحالف السابقة لدول المنطقة مع واشنطن، والذي تجلّى بخاصّة في رفض الدول المنتجة للنفط طلب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن رفع الإنتاج، ورفضها كذلك الانحياز إلى الموقف الأمريكي حيال الحرب في أوكرانيا.
وإذا صحّ الاعتقاد بأنّ قصف إسرائيل للدوحة في 9 سبتمبر لاستهداف قيادات في حماس والذي أطلق ديناميكية غضب إقليمي ضد الولايات المتحدة قد عجّل في اتخاذ ترامب قرار إنهاء الحرب في غزّة، فإنّ إعلان المملكة العربية السعودية وباكستان عن اتّفاق دفاع استراتيجي مشترك بعد أيام قليلة لفت نظر الإدارة الأمريكية إلى تحوّل تاريخي ومؤثّر في العلاقة مع الحلفاء، وهذا ما استدعى الاستفادة من مكانة باكستان المقبلة في المنطقة وتحويلها إلى حليف استراتيجي إلى جانب إندونيسيا من خلال إشراكهما في الاتفاق وفي “قوة الاستقرار الدولية” في غزة إلى جانب مصر والأردن وتركيا.
أبعد من غزة
لم تكن حرب غزة، في جوهرها، سوى مختبر جديد لعودة ترامب إلى المسرح الدولي. ومع اتّفاق وقف اطلاق النار، يجد العالم، وجد نفسه أمام مشهد مختلف: رئيس أمريكي يستخدم أدوات الدبلوماسية والإكراه معاً، ويعيد تعريف “الوساطة” بوصفها مزيجًا من الضغط والوعيد والمناورة، وصولاً إلى ضمّ حلفاء جدد من العالم الإسلامي.
ويستبعد المراقبون أن تكون هذه التحالفات ضروريّة لتحقيق اتّفاق غزة، بل يرون فيها رؤية أمريكية لما هو أبعد من الشرق الأوسط وتخطيطًا استراتيجيًّا في إطار “الحرب الباردة” الدائرة بين واشنطن وبكين وأحد أهمّ ساحاتها: روسيا وأوكرانيا.
يراقب الأوروبيون اليوم بحذر تحرّك ترامب إزاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي وعد نفسه بإنهائها في أقرب وقت بُعيد إعلان اتّفاق غزة، ويتساءلون بشكل خاص عمّا إذا كان هذا الاتفاق مؤشّرًا على ما هو آتٍ، أم أنّه مجرّد لحظة سياسية عابرة في ملفّ معزول، فالرهان هذه المرّة أكبر بكثير، والخصم أقوى، والبيئة الجيوسياسية أكثر تعقيدًا.
ومع ذلك، فثمّة من يرى في واشنطن أنّ “المزاج السياسي” الأمريكي تغيّر فعلاً، فترامب، المدعوم من قاعدة انتخابية ترى في “الصرامة” عنوان القوّة، يميل إلى دبلوماسية هجومية توظّف عنصر المفاجأة، وتقوم على الصفقات السريعة لا المفاوضات الطويلة.
رهانات كييف وموسكو
في الأيام الأخيرة، ارتفعت في كييف نبرة التفاؤل الحذر، فزيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المرتقبة إلى واشنطن في 17 أكتوبر قد تشهد طرح ملف تسليم صواريخ “توماهوك” بعيدة المدى، القادرة على إصابة أهداف في العمق الروسي، وهو سيناريو لوّحت به الإدارة الأمريكية من دون أن تحسم قرارها، مثلما لوّحت سابقًا بفرض عقوبات اقتصادية قاسية أيضًا. أمّا في موسكو، فالرهان هو على “الزمن الطويل” بوصفه حليفها الأول، فالرئيس فلاديمير بوتين يدرك أن المجتمع الغربي يعاني من تعب الحرب، وتراجع الحماسة الشعبية لمواصلة الدعم المالي والعسكري لكييف، وأنّ الأزمات الداخلية في أوروبا، من التضخّم إلى الهجرة، جعلت الشعوب أقلّ استعدادًا لدفع تكلفة حرب لا تبدو قريبة النهاية.
إلا أن هذا الرهان لا يخلو من أخطار. فكلّما طال أمد الحرب، ازدادت عزلة روسيا الاقتصادية، وتفاقمت حاجتها إلى الأسواق الآسيوية، لا سيّما الصين، التي بدأت تُظهر بدورها إشارات تململ خفيّة من التكلفة السياسية لتحالفها المفرط مع الكرملين.
وكثيراً ما قيل إن بوتين يعتمد على أنّ الانقسامات الغربية لمنحه الوقت، لكن ما لا يُحسب بدقة هو أن ترامب قد يعيد تعريف قواعد اللعبة بسرعة غير متوقعة.
الصين الحاضر الغائب
بالرغم من تصاعد التوتّر بين واشنطن وبكين على خلفيّة تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة بنسبة 100 في المائة على الواردات الصينية، والردّ الصيني المتعهّد “باستمرار القتال”، فإنّ واشنطن تختار في المقابل لغة مزدوجة: انتقاد معلن، ومحادثات خلف الكواليس. ويؤكّد مسؤولون أمريكيون أنّ قنوات الاتّصال لا تزال مفتوحة، وقد يلتقي ترامب نظيره شي جينبينغ على هامش “قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ” في كوريا الجنوبية نهاية الشهر الحالي، في محاولة لضبط التوتّر التجاري، وفتح نافذة تفاهم حول الملفّ الأوكراني.
فهل سيسجّل ترامب من أوكرانيا هدفًا آخر في مرمى الصين، أم أنّ اللاعبين الروس سيتمكّنون من تغيير قواعد اللعبة؟